تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وَكَذَلِكَ فقد ذكر الرَّازِيّ [18] أَنَّ الكِسَائِيّ قد طعن في تقدير الآية «أخصُّ مِنْهُمُ المقيمين الصلاة, وهم المؤتون الزكاة» [19]؛ لأَنَّ قوله {لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} منتظر للخبر, والخبر هو قوله: {أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} , وهو مردود لأنّا بيّنّا أَنَّ الخبر هو قوله {يُؤْمِنُونَ}.

ومن الجدير ذكره أَنَّ الشَّيْخَ الشَّعْرَاوِيَّ مِنَ المُحْدَثِيْنَ، قَدْ مَالَ إلى تسمية هَذِهِ الظَّاهِرة بـ "كسر الإعراب"؛ «لأنّ الإعراب يقتضي حكماً, وهنا نلتفت لكسر الحكم, والأذن العَرَبِيَّة الَّتِي نزل فيها القرآن وطبعت على الفصاحة، تنتبه لحظة كسر الإعراب» [20]، وإِنَّمَاجاء ذَلِكَ ليلفت السمع، ومِنْ ثَمَّ الإدراك إلى أَهَمِّيَّة هَذِهِ العبادة.

وَعَلَى هَذَا الوجه الإعرابيّ الأَوَّل يكون التَّقْدِيْر العامّ للآية الكريمة: «لَكِنِ الرّاسخونَ في العلم مِنْهُمْ والمؤمنون، يؤمنون بما أُنْزِلَ إليك وما أُنْزِلَ من قبلك»، وذَلِكَ على عدِّ {الرَّاسِخُونَ} مبتدأ وجملة {يُؤْمِنُونَ ... } هي الخبر، ثُمّ يأتي القطع على تخصيص المدح والتعظيم؛ أي "وأعني المقيمين الصلاة" [21]، ثُمّ يأتي القطع مرّة أخرى, فيبدأ بمبتدأ محذوف الخبر [22]، والتَّقْدِيْر "المؤتون الزّكاة كَذَلِكَ", وَبِذَلِكَ تكون جملة (أعني المقيمين الصّلاة) اعتراضيّة بين الجملتين الاسميّتين المتعاطفتين [23] , ثُمّ تأتي الجملة الاسميّة الجديدة (والمؤمنون بالله واليوم الآخر) وخبرها قوله {أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [24].

والوجه الثَّانِي: أَنْ يكون معطوفاً على الضّمير في: {مِنْهُمْ}، ويكون بِذَلِكَ {وَالْمُقِيمِينَ} في موضع خفض [25]؛ أي «لَكِنِ الرّاسخونَ في العلم مِنْهُمْ ومن المقيمين الصلاة» [26] , فبتغيُّرِ الإعرابِ تغيَّرَ المعنى كما هو واضح من تغيُّرِ الدَّلالات وتنوّع الوجوه واختلاف التَّقْدِيْرات وتضارب التَّأوِيلات.

والوجه الثَّالِث: أَنْ يكون معطوفاً على "الكاف" في "إليك" [27] , ويكون بِذَلِكَ {الْمُقِيمِينَ} في موضع خفض أَيْضَاً كسابقه على المستوى الإعرابيّ, إِلاَّ أَنَّهُ يختلف عنه في المعنى؛ إذ التَّقْدِيْر «يؤمنون بما أنزل إليك, وإلى المقيمين الصلاة, وهم الأنبياء» [28].

والوجه الرَّابِع: أَنْ يكون معطوفاً على "ما" في "بما أنزل" [29]، ويكون بِذَلِكَ {الْمُقِيمِينَ} في موضع خفض كسابقيه, على المستوى الإعرابي, إِلاَّ أَنَّهُ يختلف أَيْضَاً عنهما في الوجه المعنوي؛ إذ التَّقْدِيْر: "يؤمنون بما أنزل إلى محمّد r, وبالمقيمين الصلاة" [30] , ويعزى هَذَا -كما ذكر مكّيّ- للكسائيّ [31]، وهو عند الطَّبَرِيّ أولى الأقوال بالصّواب على أَنَّ يوجّه معنى المقيمين الصّلاة إلى الملائكة [32].

والوجه الخامس: أَنْ يكونَ معطوفاً على "الكاف" في "قبلك" [33]، وفيه أَيْضَاً تشابه في أَنَّهُ في موضع خفض على المستوى النَّحْويّ, واختلاف على المستوى الدّلالي؛ إذ المعنى "ومن قبل المقيمين الصلاة" [34] , ويعني بهم الأنبياء [35]، وذكرَ الإمام القُرْطُبِيّ [36] من القُدَمَاء، وتبعه السّيّد الطَّبَاطبائِيّ [37] من المُحْدَثِيْنَ, أَنَّ الأَوْجُه الأربعةَ الأخيرةَ السّابقَ ذكرُها لا تجوز عند البَصْرِيِّيْنَ؛ لأَنَّهُ لا يعطف بالظَّاهِر على المضمر المخفوض من غير إعادة الجارّ.

والوجه السَّادِس: أَنْ يكون معطوفاً على الظَّرْف نفسِهِ [38] , ويكون على حذف مضاف؛ أي "ومن قبل المقيمين" [39] , فحذف المضاف, وأقيم المضاف إليه مقامه [40].

ورأى جمهور العُلَمَاء أَنَّ مذهب سِيْبَوَيْهِ، الَّذِي أخذه عن أستاذِهِ الخليل، هو الأحسن والأسلم والأنسب لمقام النّصّ، وسأكتفي بما قاله القُرْطُبِيّ: «وأصحُّ هَذِهِ الوجوهِ قولُ سِيْبَوَيْهِ، وهو قولُ الخليل» [41]، واختار الطَّبَرِيّ، وغيره رأيَ الكِسَائِيّ [42]، الَّذِي رأى فيه كثيرٌ مِنَ العُلَمَاء أَنَّهُ يلي رأي سِيْبَوَيْهِ قوَّةً، وانسجاماً مع قواعدِ اللُّغَة، وأصولِها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير