وأما عن ترك العلماء للمجالس الدعوية الظاهرة فقد وقع هذا في سلفنا. فهذا أبو عاصم الضحاك بن مخلد لما علم أن شعبة قد ترك التحديث فقال له الضحاك: إن رجعت إلى التحديث فسأعتق غلامي هذا، فقال له شعبة: "أنت نبيل" فسمي من يومها النبيل. وهذا الأعمش وهو من أئمة القراءات ولكن لم يقرئ إلا ثلاثة فقط. وهذا بشر بن الحارث الحافي كان إذا جلس للتحديث وجلس إليه أكثر من اثنين قام وترك التحديث وقد ترك السيوطي التحديث واعتزل عن الناس في منزل له، ولو بحثت أخي في كتب التراجم والتواريخ لرأيت من هذا الكثير، فقبل أن تطعن تعّلم وأثبت العرش ثم انقش، وقبل أن تتكلم اقرأ وتعلم فإن الله خلق لنا لسانا واحدا وأذنين حتى يكون السمع أكثر ولتكون القراءة والمعرفة قبل وأكثر من الكلام والتصدر، فهؤلاء السالفين ما سمعنا أن طلابهم سبوهم ولا شنعوا عليهم ولا شغبوا، فتعلم الأصول أولًا ولا تكن مثلما قال القائل: "أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل".
وهذه موعظة أختم بها هذه الفقرة وهي من عالم جليل يسمي (يموت) وعظ ولده يومًا فأبلغ في أبيات شعرية رقراقة وأسوق لك منها بيتًا هو الذي نحتاجه في هذا المقام والله المسئول أن تعيه جيدًا قال:
وإن بخل العليم عليك يومًا فذل له وديدنك السكوت
قلت: فلم يقل فسبه وشنع عليه وذب الناس عنه، وصدق القائل يوم قال: "من خدم المحابر خدمته المنابر" وأزيدك أخيرًا: إن الشيخ ما امتنع عن هذه الدعوة المنبرية الجهرية إلا لكثرة مخالفتكم له، فإن هذه الطعون الفائت ذكرها إنما صدرت من طلاب علم يلقون الكلام على عوانه كما يعلم ذلك المنصفون، فمثل هؤلاء الجهال يحق للعالم أن يعتزلهم ولو بقي العلم في صدره إلى أن مات، ولا ينكر ذلك أحد شم رائحة السلفية واستقراء حياة السلف فهذا عبد الرحمن بن مهدي كان إذا قطٌ أحد القلم في مجلسه ترك المجلس ودخل بيته، فإن قيل: هذا البويطي صاحب الشافعي يوصي إخوانه بأن يتحملوا طلابهم وأن في ذلك رفعة للشيخ، وكان الشافعي يقول كثيرًا متمثلًا بهذا البيت:
أهين لهم نفسي لكي يكرمونها ولا تكرم النفس التي لا تهينها
قلت: هذه وصية البويطي والشافعي من قبله، لكن لمن يستحقون اسم طلاب العلم، والمطلوب فيها: الصبر على شدة حبهم للعلم مما يحوج الإمام إلى حبس نفسه عليهم والصبر على كثرة إلحاحهم في الطلب والرفق بالغريب منهم وبذل النفس له، وهذا لا غبار عليه مطلقًا والعلماء مطالبون بهذا والشيخ أيضًا يفعله مع طلابه ولا ينبؤك مثل خبير، لكن من المعلوم لكل ذي لب فضلًا عن كل ذي علم وفقه أن الطالب الذي يسب شيخه ويشنع عليه لا لشيء إلا لأجل مخالفته في الرأي، فهذا لم يشم رائحة العلم؛ لذا لا تجد منه نتيجة ولا كثير أثر وانظر تخبر!!! ففي هذا وأمثاله يقول الشافعي لما أن حدث معه مثلما حدث مع الشيخ من طلاب الإمام مالك وظنوا أن الشافعي سيوافق مالكًا على كل شيء فلما خالفه رأى منهم مثلما رأى الشيخ من هؤلاء الطلبة الذين أحكي فأنشأ قائلًا:
أأنثر درًّا بين سارحة النعم أأنظم منثورًا لراعية الغنم
لعمري لئن ضيعت في شر بلدة فلست مضيعا بينهم درر الحكم
فإن فرج الله الكريم بلطفه وصادفت أهلا للعلوم وللحكم
بثثت مفيدا واستفدت وداده و إلا فمكنون لدي و منكتم
فمن منح الجهال علما أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم
ولله در الأعمش فقد قال: "لا تعلقوا الدر في رقاب الخنازير" والله الهادي إلى سواء السبيل.
أخي في الله لعل هذا الرد السابق وما قبله كان قد أفادك، فلا للطعن تعد وكن سلفيًا في كل شيء فإن استطعت أن لا تحك جسدك إلا بأثر سلفي فافعل، وليعلم الطاعنون جيدًا أن الشيخ من أكابر العلماء كما تبين من ترجمته ومن ثناء الناس عليه، فلينتفع به الطلاب قبل فقده، فإن فقد العالم بلية حقًا ومحنة محناء.
لعمرك ما البلية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن البلية فقد فذ يموت بموته خلق كثير
وها أنا ذا أنعي على زمان نحياه خرج الطغام السفلة على هذا العالم المدرة فسبوه وأغلظوا له وافتروا عليه، ومن قبل كان سباب العلامة الألباني يسجل على شرائط في غضون دروس علمية زعموا، وكذا سباب العلامة ابن باز الكل تعرض لجور السفهاء، ولم ينجو منهم حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عطلوا سنته من أجل تعصب لمذاهب ورجال،
¥