تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وما أحوج الأمة اليوم -وقد بلغت الغارة أشدَّها والمحنة مداها- إلى هذا الطراز من العلماء العاملين، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ .. } [الأحزاب: 39]. ولكنها سنة الله تجيء في موعدها المعلوم وأجلها المحتوم، وصدق الحيُّ الذي لا يموت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إن رحيل العلماء الربانين، والأئمة المهتدين، كالشيخ بكر -ولا نزكِّي على الله أحداً- ثلمة لا تسد، وفجيعة لا تنسى، تتصدَّع لها الأكباد، وتتزلزل لهولها القلوب حقاً لو وعتها وتدبَّرت عواقبها، فهم للأمة مصابيح دجاها، وأنوار هداها، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، والمصيبة بهم تذكِّر بمصاب الأمة بفقد رسولها –صلى الله عليه وسلم- لأنَّ العلماء ورثته وحملة هديه وأهل حكمته، ولأنه بموتهم يرفع العلم، ويلتمس عند الأصاغر من أهل البدع والأهواء، ويُسندُ الأمر إلى غير أهله، فإذا رُفِع، وثبت الجهل، وانتشر وشاع، انتشرت الفتن، وشاعت الفواحش، وهلكت الأمة جمعاء بل البشرية بأسرها؛ لأن الفساد الأخلاقي يفضي إلى فساد الكون واضطراب نظامه، كما ربط الله سبحانه بينهما، فقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. ولذلك عُدَّ موت العلماء من أمارات الساعة وخراب العالم، كما جاء في صحيح البخاري، عن أنس -رضي الله عنه- قال: لأحدثنَّكم حديثاً سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحدثكم به أحد غيري، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء؛ حتى يكون لخمسين امرأةً القيمُ الواحد)).

ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته، من أمثال: الشيخ بكر أبو زيد، والشيخ مصطفى الخن، والشيخ صفي الرحمن المباركفوري وسواهم، رحم الله الجميع، أخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)). قال الحافظ في الفتح: والمراد برفعه موت حملته.

فالعلم يذهب بفناء العلماء وترئيس أهل الجهل كلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم، هذا وإنَّ بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء لا يغني من ليس بعالم شيئاً، فقد سأل أعرابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها أبناءنا ونساءنا وخدمنا؟ فرفع إليه رأسه، وهو مغضب، فقال: وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف، لم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم!.

ولقد فسَّر حبر الأمة وترجمان القرآن عبدُ الله بن عباس -رضي الله عنهما- قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، قال في رواية عنه: خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها، وكذا قال مجاهد أيضاً: هو موت العلماء. وقال الحسن رحمه الله: (موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار). نعم هذا صحيح، لا مُعارِض له، لكن من حسن العزاء عند فقد العلماء أن دين الله محفوظٌ من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان بحفظ الله له، وشريعته باقية إلى قيام الساعة، وخيره يفيض ولا يغيض، قال الحق سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وفي الصحيحين: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)) وفي رواية: ((حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير