? نَعَمْ؛ مَاتَ مَنْ جُبِلَ على العِلْمِ طَبْعُهُ، وعُمِّرَ بحُبِّ الفَضْلِ رَبْعُهُ، فَظَلَّ للعَقِيْدَةِ حَارِسًا أمِيْنًا، وللُّغَةِ صَاحِبًا قَرِيْنًا، وللآدَابِ سَمِيْرًا خَدِيْنًا، قَدْ عُجِنَتْ بالظَّرَافَةِ طِيْنَتُهُ، وسِيْرَتْ باللَّطَافَةِ سِيْرَتُهُ، كَانَ سَحَابَةَ عِلْمٍ على الطَّالِبِ والوَافِدِ، وعُبَابَ أدَبٍ لا تُكَدِّرُهُ دِلاءُ الصَّادِرِ والوَارِدِ، لَهُ مِنَ الأدَبِ مَآدِبُ تُغَذِّي الأرْوَاحَ، ومِنَ الكَلامِ لَهُ سُلافَةٌ تَهُزُّ الأعْطَافَ المِرَاحَ.
? وقَالَ بَعْضُهُم:
أرَى العِلْمَ نُوْرًا والتَّأدُّبَ حِلْيَةً فَخُذْ مِنْهُما في رَغْبَةٍ بنَصِيْبِ
ولَيْسَ يَتِمُّ العِلْمُ في النَّاسِ للْفَتَى إذَا لم يَكُنْ في عِلْمِهِ بأدِيْبِ
? وقَالَ آخَرُ:
مَنْ كَانَ مُفْتَخِرًا بالمَالِ والنَّسَبِ فإنَّمَا فَخْرُنَا بالعِلْمِ والأدَبِ
لا خَيْرَ في رَجُلٍ حُرٍّ بِلا أدَبٍ لا، لا، وإنْ كَانَ مَنْسُوْبًا إلى العَرَبِ
* * *
? فسَقَى الله؛ تِلْكَ الأيَّامَ الخَالِيَةَ، وتِيْكَ المَجَالِسَ الرَّاوِيَةَ، يَوْمَ كَانَتْ وكُنَّا مَعَ شَيْخِنَا في إفَادَةٍ، ومَعَ عُلْمِهِ وآدَابِهِ في زِيَادَةٍ، ومَعَ حِلْمِهِ ومَآدِبِهِ في وِفَادَةٍ، فَكَانَتْ مَجَالِسُهُ لألْفَاظِ المَسَرَّاتِ كالمَعَاني، ولنُكَاتِ العِلْمِ كالمَبَاني، فِيْهَا أثْمارُ أطَايِبِ الأمَاني، مِنْ أشْجَارِ وِصَالِ الغَوَاني، فرَحِمَكَ الله أبَا عَبْدِ الله!
بكرٌ أبو زَيْدٍ، ومَا أدْرَاكَ مَا بَكْرٌ؟ خَيْرُ قَوْلُهُ، وطَيِّبٌ فِعْلُهُ، رَافِعُ ألْوِيَةِ الفَصَاحَةِ والبَيَانِ، ومَالِكُ رِقَابِ البَلاغَةِ والتِّبْيَانِ، ونَاشِرُ أرْدِيَةِ العِلْمِ والتَّألِيْفِ، وعَامِرُ أبْنِيَةِ الأدَبِ والتَّصْنِيْفِ:
للهِ دَرُّ إمَامٍ كُلُّهُ أدَبُ بفَضْلِهِ يَتَحَلَّى العُجْمُ والعَرَبُ
* * *
? الله يَعْلَمُ أنِّي وإنْ شَطَّ بِنَا المَزَارُ، ونَأتْ عَنَّا الدِّيَارُ، لا أنْسَاهُ ولا أُقْلِيْهِ، بَلْ حُبُّهُ تَخَلَّلَ الشِّغَافَ والسُّوَيْدَاءَ، وبِرُّهُ تَدَثَّرَ بالذِّكْرِ والدُّعَاءِ، فَلَهُ عَليَّ أفَاضِلُ الأفْنَانِ، ومَحَاسِنُ التَّصَانِيْفِ والبَيَانِ.
وكَيْفَ أُعْذَلُ في ثَنَائِهِ، أمْ كَيْفَ أُعَاتَبُ في دُعَائِهِ؟ وهُوَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ()، قَدْ شَرَحُوا للآدَابِ صَدْرِي، وأجْرُوا بالبَلاغَةِ قَلَمِي وفِكْرِي، وسَقَوْني كُؤُوْسَ العِلْمِ وأحْشَائِي صَادِيَةٌ، وكَسَوْني حُلَلَ الفَضْلِ وعَوْرَاتي بَادِيَةٌ، فَلَهُم مِنِّي العُتْبَى في الدُّعَاءِ، وإلَيْهِم العُقْبَى في الدِّلاءِ!
* * *
? لَقَدْ دَانَ للشَّيْخِ في العَقِيْدَةِ والفِقْهِ واللُّغَةِ كُلُّ دَانٍ وقَاصِي، واعْتَرفَ بفَضْلِهِ المُوَافِقُ والمُخَالِفُ، على رُغْمِ أنُوْفِ الجَلاَّدِيْنَ، وإكْفَارِ المُتَعَالمِيْنَ.
فَلَهُ الذِّكْرُ والصِّيْتُ في المَجَالِسِ والمَحَافِلِ، ولَهُ الحُظْوَةُ والهَيْبَةُ بَيْنَ الأكَابِرِ والأمَاثِلِ، فَفِي حَيَاتِهِ أحَاطَتْ بِهِ التَّقَارِيْظُ والإطْرَاءُ، وبَعْدَ مَوْتِهِ اهْتَجَّتْ بِهِ المَدَائِحُ والثَّنَاءُ.
فَلا تَسْتَبْعِدْ مَا هُنَا فالشَّيْخُ قَدِ انْتَشَرتْ للعَالمِيْنَ لطَائِفُ حِلْمِهِ وعِلْمِهِ، وظَهَرَتْ للمُتَعَلِّمِيْنَ طَرَائِفُ آدَابِهِ وشِيَمِهِ، فَقَدْ أخَذَ بنَاصِيَةِ اللُّغَةِ يَقُوْدُهَا في ارْتِجَالٍ، وأمْسَكَ بأعْنَاقِ البَلاغَةِ يَسُوْدُهَا في جَمَالٍ.
* * *
? كَانَ رَحِمَهُ الله إمَامًا هُمَامًا بِلا مُدَافَعٍ، وفَاضِلاً مُنَاضِلاً بِلا مُنَازَعٍ، سَلِيْمَ العَقِيْدَةِ والمَنْهَجِ، نَقِيَّ المَدْخَلِ والمَخْرَجِ، حَسَنَ السِّيْرَةِ، مُحْسِنَ السَّرِيْرَةِ، صَافيَ المَشْرَبِ، طَيِّبَ المَطْلَبِ، عَلَيْهِ طَلاوَةٌ، وفِيْهِ حَلاوَةٌ، تَعْرِفُ مِنْهُ ولا تُنْكِرُ، وَاضِحُ العِبَارَةِ، سَانِحُ الإشَارَةِ، مَنْهُوْمُ عِلْمٍ وأذْكَارٍ، مَقْرُوْمُ تَألِيْفٍ وأسْطَارٍ، رُحْلَةٌ رَحَّالَةٌ خَفِيْفٌ، مُحَقِّقٌ مُدَقِّقٌ ظَرِيْفٌ، غَايَةٌ في التَّحْرِيْرِ، نِهَايَةٌ في التَّقْرِيْرِ.
¥