هَكَذَا مَنْ خَالَطَهُ وعَرَفَهُ يَنْسُبُنِي إلى التَّقْصِيْرِ في وَصْفِهِ، ومَنْ جَهِلَهُ وغَالَطَهُ يَنْسُبُنِي إلى التَّغَالي فِيْهِ، مَعَ أنَّني لا ادَّعِي عِصْمَتَهُ، ولا أقُوْلُ بإجْمَاعِ كِلْمَتِهِ، بَلْ هُوَ بَشَرٌ مِنَ البَشَرِ، لَهُ وعَلَيْهِ، ويُؤخَذُ مِنْهُ ويُرَدُّ عَلَيْهِ، والله حَسِيْبُهُ، ولا نُزَكِّي على الله أحَدًا!
* * *
? لاجَرَمَ؛ فَقَدْ تَوَاقَفَتْ عِنْدَهُ التَّألِيْفُ، و تَثَاقَفَتْ مِنْهُ التَّصَانِيْفُ، بَارِعُ السَّبْكِ، رَافِعُ الشَّكِّ، لَهُ تَنْقَادُ البَلاغَةُ إرْسَالا، ومِنْهُ تَأتي الفَصَاحَةُ إسْلَالاً، لَيْسَ عَنْهُ أئِمَّةُ اللُّغَةِ والبَلاغَةِ ببَعِيْدٍ، ولا سَحْبَانُ والجَاحِظُ بفَرِيْدٍ، ولا الرَّافِعِيُّ وشَاكِرٌ بشَرِيْدٍ، قَدْ اكْتَسَى مِنَ الكِسَائِي بكِسَاءٍ، وتَدَثَّرَ مِنَ الفَرَّاءِ بفِرَاءٍ، وانْتَهَلَ مِنَ مَعَيْنِ النُّحَاةِ بدِلاءٍ، وارْتَوَى مِنْ كَأسِ البُلَغَاءِ بصَفَاءٍ.
ولَوْلا التَّطَاوُلُ والتِّقْوَالُ، لَقُلْتُ: كَادَ أنْ يَقِفَ فَلَكُ اللُّغَةِ بَعْدَ بَكْرٍ، لَكِنْ لم تَزَلْ بَقِيَّةٌ في تمِيْمٍ وبَكْرٍ، ومَا زَالَ في بِلادِ الرَّافِدَيْنِ وأرْضِ الكِنَانَةِ مِنْ ذِكْرٍ!
نَعَمْ؛ فإنَّ اللُّغَةَ لم تَزَلْ أبِيَّةً قَوِيَّةً، سَلِيْمَةً سَوِيَّةً، فلِرِجَالهَا قُدْمَةٌ وحَمِيَّةٌ، فَهُمْ حُمَاةٌ لهَا يَقَظَةٌ، وحُرَّاسٌ عِنْدَهَا بُلَغَةٌ، لِذَا فأنْسَابُها بالأمْوَاتِ مُتَأصِّلٌ، وسُلالَتُهَا بالأحْيَاءِ مُتَّصِلٌ!
? وقَدْ قِيْلَ في مِثْلِهِ:
وإذَا نَمْنَمَتْ بَنَانُكَ خَطًّا مُعْرِبًا عَنْ إصَابَةٍ وسَدَادِ
عَجِبَ النَّاسُ مِنْ بَيَاضِ مَعَانٍ يُجْتَنَى مِنْ سَوَادِ ذَاكَ المِدَادِ
* * *
? دَعَتْهُ هِمَّتُهُ، ودَفَعَتْهُ نَهْمَتُهُ فَجَابَ البِلادَ بَحْثًا ومُبَاحَثَةً، وسَائِلاً نَائِلاً، فَطَافَ بَعْضَ البِلادِ، وطَوَّفَ في المُؤتَمرَاتِ والتِّلادِ، فالْتَقَى بأفَاضِلِ العُلَماءِ، وأمَاثِلِ الأدَبَاءِ، وأخَذَ مِنْهُم وأعْطَى، وأفَادَ مِنْهُم وأبْدَى، فَكَانَ طَالِبًا مَطْلُوْبًا، وعَالمًا أدِيْبًا!
فَأصْبَحَ بَيْنَهُم ثِقَةً مَوْثُوْقًا، وأضْحَى عِنْدَهُم بأرْفَعِ طَرَفٍ مَرْمُوْقًا، وأمْسَى لَدَيْهِم مِنْ رَوِيِّ الكَأسِ مَصْبُوْحًا مَغْبُوْقًا، فَقَدْ هَدَاهُ الله لأرْشَدِ الطُّرُقِ المُسْتَقِيْمَةِ، وأرَاهُ أقْوَمَ السُّبُلِ القَوِيْمَةِ، فاسْتَمْسَكَ بعُرْوَةٍ مِنَ الدِّيْنِ وَثِيْقَةٍ، وثَبَتَ مِنَ الاسْتِقَامَةِ على بَصِيْرَةٍ وحَقِيْقَةٍ، والله يَهْدِي لفَضْلِهِ مَنْ يَشَاءُ، ومِنَ الله العَوْنُ والسَّدَادُ!
لعَمْرُ أبِيْكَ مَا نَسِبَ المُعَلَّى إلى كَرِيْمٍ وفي الدُّنْيَا كَرِيْمُ
ولكِنَّ البِلادَ إذَا اقْشَعَرَّت وَصَوَّحَ نَبْتُهَا رُعِيَ الهَشِيْمُ
* * *
? وممَّا يَدُلُّ على إنَاخَةِ كَلْكَلِ الزَّمَانِ بَعْدَ النَّبَاهَةِ عَلَيْهِ، وصَرْفِ صُرُوْفِهِ بَعْدَ البَلاغَةِ إلَيْهِ، مَا كَتَبَهُ وحَرَّرَهُ في مَجامِيْعِ كُتُبِهِ، ومَضَامِيْنِ رَسَائِلِهِ، ومُخْتَارَاتِ مَشَارِيْعِهِ، ومُجَوَّدَاتِ أطَارِيْحِهِ، وأفْنَانِ مَوَاضِيْعِهِ، فَدُوْنَكَ مَا سَطَّرَهُ وأمْلاهُ، ومَا اخْتَارَهُ وجَنَاهُ، ففِيْهَا كِفَايَةٌ ومَقْنَعٌ، لكُلِّ طَالِبٍ ومُصْقَعٍ، وشَارِبٍ ومُكْرَعٍ!
فَإذَا كَانَ غَيْرُهُ يَكْتُبُ كَما يُرَادُ، فَشَيْخُنَا يَكْتُبُ كَما يُرِيْدُ، وبَيْنَ الحَالَيْنِ بَوْنٌ بَعِيْدٌ، وكَيْفَ جَرَى الأمْرُ ففَرْقٌ بَيْنَ الرَّائِدِ والمُرِيْدِ، ولَهُ التَّصَانِيْفُ السَّائِرَةُ، والتَّآلِيْفُ الرَّائِدَةُ، قَضَى بحُسْنِهَا وتَحْسِيْنِهَا أهْلُ الشَّرْقِ والغَرْبِ، وحَكَمَ ببَيَانِهَا وتَبْيِيْنِهَا أهْلُ العِلْمِ والأدَبِ.
فَكَانَ مِنْهَا مَا يَأخُذُ بلُبِّ الحَازِمِ اللَّبِيْبِ، ومِنْهَا مَا يَمْلِكُ لُبَابَ كُلِّ أدِيْبٍ، وبَيْنَهَا مَا يَقْمَعُ المُتَعَالمَ والمَجَاهِيْلَ، ومِنْهَا مَا يَرْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ المَرْأةِ والأرَاجِيْلِ.
¥