كان كثيرا ما يتحدث شيخنا عن الشهادة والشهداء، وخصص إحدى رسائله العلمية عنهم، ومسجده خرج منه أكثر من 70 شهيدا، في العدوان الأخير على غزة، عرضوا عليه تأمينه كما يحصل مع كل القادة، ولكنه رفض وأصر على مواجهة العدوان مع الناس، وكان أمر الله قدراً مفعولاً.
أول لقاء بشيخنا في منزل الدكتور سعود مختار بمدينة جدة، فالشيخ نزل في ضيافة الدكتور، وكانت هناك ندوة عن واقع الأمة، حضرها جمع غفير، وتكلم كثيرون، ولم يشكل الأمر لنا فرقا، لكن عندما تكلم الشيخ كان هناك فرق، تسمع كلمات العز والإباء والصمود تصدر من رجل يعرف معانيها، وليس مجرد شخص يحفظها أو قرأها في كتاب، ثم عاد وألقاها من جديد على طلابه .... الشيخ رجل مختلف لبس بذلة الحرب وحمل السلاح ورابط على تخوم غزة، وهو صاحب فكرة الدروع البشرية لحماية منازل القساميين، التي يستهدفها الاحتلال بالقصف، واستشهد ابنه إبراهيم في عملية نوعية، وابنه بلال، شلت قدمه في قصف استهدفه في سيارة.
شيخنا من أوائل الذين نشؤوا مع الشيخ ياسين في المجمع الإسلامي، قال لي ذات مرة، كان الشيخ يأخذنا ويطوف بنا في مساجد غزة لنلقي الكلمات على الناس، كنا نضع الرسائل والكتب التي حددها لنا الشيخ ياسين في شراب الكندرة لتعميتها عن اليهود، اعتقلنا معه مرات ومرات.
ذهبت به ذات يوم من الطائف إلى الرياض من أجل لقاء العلماء والدعاة، كان بصحبته والدته رأيت من معاني البر وخدمة والدته معه في الطريق الكثير، كانت معه ابنته الصغيرة عائشة، كان يلاعبها ويلاطفها ويقول هذه أمي، يمازح رفيقه معنا في السيارة، الدكتور عطا الله السبع، كل هذا أزال عني كثيرا من التخيلات، بأني سألقى رجلا صلبا حازما، وفُتحت لي معه الكثير من الأبواب.
حدثني الشيخ عن المرحلة الجامعية التي قضاها في الرياض بجامعة الإمام، وطلب أن يلتقي بشيخه (كما قال) العلامة عبد الرحمن البراك، وطلب لقاء أستاذه الشيخ الدكتور خالد العجيمي، طلب أيضا اللقاء بالشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف زميله في مرحلة الدراسة، طلب أن يلتقي برجل استضافهم في داره في بداية قدومهم للدراسة، كان شيخنا رجلا وفيا يصل أشياخه وإخوانه ويحفظ المعروف لأهله.
كان هدف الرحلة لقاء العلماء والنخب فقط، طلب مني احد الإخوة مرارا وتكرارا أن يلتقوا بالشيخ وكنت أحاول أن اعتذر له في أحد اتصالات الأخ، سمع الشيخ ما دار في المكالمة، وقال إن كان في وقتنا متسع ذهبنا إليهم، كان اليوم مليئا من الصباح إلى المساء، ولا يوجد وقت إلا بعد العشاء بمدة، وبعد جدول مكثف، توقعت من الشيخ أن يعتذر، خصوصا أن اللقاء مع مجموعة شباب، ولكن كانت المفاجأة لي، عندما قال لي الشيخ: يا بني نحن لدينا قضية نخدم بها الإسلام، لا نخدم فيها أنفسنا، نذهب إليهم وكان ما أراد الشيخ. همة وعزم لا تجدهما عند كثير من الدعاة والفضلاء من رجل جاوز 50 سنة.
شاهدت الكثير من تواضع الشيخ وتفانيه في خدمة الناس، كنا في الدائري الجنوبي بمدينة الرياض، سقط من سيارة تسير أمامنا براد كبير، وتعطلت مسيرة الطريق المزدحم أصلا، والناس تمر من جانبه ولا يتوقف أحد لرفعه، هنا أمرني الشيخ بالتوقف، ونزل بنفسه ولحقته، وقمنا بإزاحة البراد عن الطريق، البلد ليست بلده، والطريق أصبح سالك بتجاوزنا له، ولديه موعد مهم، وهناك أشخاص في وسعهم حمله عن الطريق، كل هذه القرائن تحمل على ترك البراد في الطريق، ولكن الشيخ مجاهد أشرب قلبه التذلل للمؤمنين والسعي في خدمتهم.
كان كثيرا ما يتصل ويسأل عن أشخاص لحقهم الأذى، ويسأل عن أهلهم وعن حالهم، كنت أقف وأتساءل بعد كل اتصال له، أليس هو الذي يعيش في حصار وضائقة، أليس هو أولى بالسؤال عن حاله ثم لديه ما يشغله في غزة عن غيره الكثير الكثير، ولكنه الوفاء والأخوة في الله.
شيخنا أنهى شرح مقدمة صحيح مسلم، وكان بعض إخوانه يسعون له في طباعة الكتاب، وأثناء سعينا معهم في خدمته، أكد شيخنا أنه لا يريد مالا مقابلا لطباعة الكتاب، لأن الهدف خدمة العلم وأهله لا التكسب ... كما هو حال كثير من المؤلفين في هذه الأيام.
كان كثيرا ما يتحدث شيخنا عن الشهادة والشهداء، وخصص إحدى رسائله العلمية عنهم، ومسجده خرج منه أكثر من 70 شهيدا، في العدوان الأخير على غزة، عرضوا عليه تأمينه كما يحصل مع كل القادة، ولكنه رفض وأصر على مواجهة العدوان مع الناس، وكان أمر الله قدراً مفعولاً.
رحمك الله يا شيخي كنت عالما ومجاهدا ومصلحا ومربيا ..
رحمك الله يا شيخي سبقت أفعالك أقوالك ..
رحمك الله يا شيخي، سأبقى محبا لك داعيا لك ولن أنساك ما حييت، سأخبر أبنائي عنك وأربيهم على كلماتك، علمتنا الكثير حيا، وبموتك تعلمنا منك أكثر، سأظل أذكر مواقفك وكلماتك الدافئة ودروسك، كثيرا هم الذين ماتوا ومات معهم ذكرهم وأثرهم لكنك يا شيخنا ستبقى في النفوس وأثارك ستبقى على تلاميذك وفي كتاباتك، ارحل فأنت الحي ونحن الأموات نحن المأسوف علينا وأنت الهناء والسعد بإذن الله لك.
رحمك الله يا شيخي … رحمك الله يا شيخي … رحمك الله يا شيخي ..
1/ 1/2009م
¥