تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبلغت محبة شيخنا رحمه الله للصحيح، أنه أحيا قراءته في أماكن، لا يوجد على وجه الأرض من يفعلها اليوم إلا هو، وذلك في أماكن الرباط، ومواضع ثغور المجاهدين، إذ كان الشيخ يصحب الكتب النافعة معه ليقرأها على المجاهدين، شأنه شأن السلف الصالح الذين كانوا يحيون ليلهم في الثغور مرابطين، يقرأون الحديث ويُقرئون.

كان الشيخ كثيرًا ما يتحدث عن مجالس التحديث في الثغور والرباط، يحث الناس على إحيائها بعد أن أميتت عشرات، بل مئات السنين، وأخبرني رحمه الله شخصيًا أنه جمع مادة ثرة في ذِكْر من عقد مجالس الإملاء والتحديث في الثغور من المحدثين، وكان الشيخ كلما تحدث عن مجالس القراءة والحديث التي قام بها على ثغور غزة العزة، شعرت أنه يتحدث عن لذة لم ينلها أحد على وجه الأرض غيره.

سئل مرة رحمه الله عن أفضل رباط رابطه، وأجمل ليلة قضاها في الثغور؟ فأجابهم: هي تلك الليلة التي رابط معه فيها الشهيد القائد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والشهيد القائد الدكتور إبراهيم المقادمة، رحمهم الله جميعًا، نحسبهم شهداء ولا نزكي على الله أحدًا، قال:" وصحبت معي صحيح البخاري تلك الليلة، وقرأت عليهم منه كتاب الجهاد".

فاعجب من حال هذا الشيخ، حيث لم تشغله مقارعة الأعداء، وحماية ثغور بلاده الطهور فلسطين، من أن يستغل وقته في القراءة والإقراء، بل كان يهتبل فرصًا كثيرة وهو مع المجاهدين على الثغور، والعدو لا يبعد عنهم سوى أربعمائة متر فقط، فيقوم بالاتصال مع علماء هذا العصر خارج فلسطين، يطمئنهم على المجاهدين، وأنهم لم يزالوا يمتشقون سلاحهم كأنها الأحلاس، يحمون الأمة من خلفكم، ويصدون العدو عنكم، وكم بكى العلماء حين سمعوا هذا الكلام من الشيخ رحمه الله، وكان الشيخ يطلب منهم توجيه دروس ونصائح وفوائد للمجاهدين في تلك الليالي.

ولا أنسى تلك الليلة التي هاتفني بها الشيخ رحمه الله وأنا في السنة الثانية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 2004م، كان ذلك في منتصف الليل، وكانت الحرب مستعرة في غزة، ومعسكر جباليا قد انتفض على بكرة أبيه يصدون اجتياحًا صهيونيًا غاشمًا أراد أن يكسر شوكة المقاومة في غزة، ويستأصل شأفتها.

كانت الحرب قائمة، أطلق المجاهدون عليها وقتئذٍ "أيام الغضب"، وإذ بالشيخ رحمه الله يكلمني بالجوال يطلب مني شيئين، الأول أن استنفر زملائي في الجامعة لقيام الليل في المدينة من أجل الدعاء للمجاهدين، وأما الثاني فقد طلب مني نسخة كاملة من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ذات (26 مجلدًا) ليقرأها على المجاهدين في المعركة، فذهلت، وقلت للشيخ: حتى في هذا الموقف تقرؤون؟ قال: نعم، حتى في هذا الموقف، كي يعلم يهود وأشياعهم أننا أمة لن نترك الجهاد والعلم إلا على رقابنا، لتنقضي المعركة بعدها بنصر الله المؤزر لهذه الثلة المجاهدة.

وبلغت محبة الشيخ العظيمة لصحيح الإمام البخاري أنه كان كثيرًا ما يردد عبارته الجميلة:" إني لأتعبد الله بقراءة صحيح البخاري كما أتعبده بقراءة القرآن"، وقال مرة في مجلس:" لقد قرأت صحيح البخاري ومسلم أيام الماجستير في ستة أيام"، وقام رحمه الله بتدريس كتاب صحيح الإمام البخاري، شرحًا تحليليًا لطلبة الجامعة الإسلامية بمسجد الجامعة، في درس إملاءٍ لمدة ساعتيْن إلى ثلاث، على مدار أربع سنوات.

وقد لمس آل الشيخ في بيته حبه لصحيح البخاري، وإدمانه القراءة فيه حتى كاد يستظهره، فكانت زوجات الشيخ الأربع () رحمهن الله يشاركنه في قراءة الصحيح لوحدهن، ثم يقمن بسؤال الشيخ عن استشكالات قد ترد، أو علاقات التراجم مع الأحاديث إلى آخر تلك المناقشات، وكان الشيخ يذكر هذا عنهن في المجالس، ويشيد بحرصهن على العلم والمذاكرة.

رحم الله إمامنا الشهيد نحسبه كذلك والله حسيبه

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير