"لو أن لي ألف روح لما تردّدت أن أجعلها فداء لحقيقة واحدة من حقائق الإسلام فقد قلت: إنني طالب علم، لذا فأنا أزن كل شيء بميزان الشريعة، إنني لا أعترف إلا بملة الإسلام .. إنني أقول لكم وأنا واقف أمام البرزخ الذي تسمونه (السجن) في انتظار القطار الذي يمضي بي إلى الآخرة لا لتسمعوا أنتم وحدكم بل ليتناقله العالم كله، ألا لقد حان للسرائر أن تنكشف، وتبدو من أعماق القلب، فمن كان غير محرم فلا ينظر إليها.
إنني متهيئ بشوق لقدومي للآخرة .. وأنا مستعد للذهاب مع هؤلاء الذين عُلقوا في المشانق. تصوروا ذلك البدوي الذي سمع عن غرائب إستانبول ومحاسنها، فاشتاق إليها .. إني مثله تماماً في شوقي إلى الآخرة والقدوم إليها. إن نفيكم إياي إلى هناك لا يعتبر عقوبة. إن كنتم تستطيعون فعاقبوني المعاقبة الوجدانية. لقد كانت الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد وهي الآن تعادي الحياة، وإذا كانت هذه الحكومة هكذا، فليعش الجنون، وليعش الموت، وللظالمين فلتعش جهنم".
وفي جلسة واحدة فقط صدر حكم ببراءة بديع الزمان سعيد النورسي من تلك المحكمة الرهيبة التي شنقت العشرات.
- أسس (الاتحاد المحمدي) في سنة 1909 رداً على دعاة القومية الطورانية، والوطنية الضيقة، كجمعية الاتحاد والترقي، وجمعية تركيا الفتاة.
- انضم إلى (تشكيلات خاصة) وهي مؤسسة سياسية عسكرية أمنية سرية، شكلت بأمر السلطان محمد رشاد قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، من أجل المحافظة على أراضي الدولة العثمانية، ومحاربة أعدائها. وكان قد انضم إلى هذه المؤسسة كثير من المفكرين والكتّاب، وكان النورسي من أنشط أعضاء قسم (الاتحاد الإسلامي) فيها، وأصدر مع عدد من العلماء (فتوى الجهاد) التي تهيب بالمسلمين أن يهبوا للدفاع عن الخلافة.
- وفي هذه المرحلة سافر إلى مدينة (وان) عام 1910 وبدأ يلقي دروسه ومحاضراته، متجولاً بين القبائل والعشائر الكردية، يعلمهم أمور دينهم، ويرشدهم إلى الحق.
- وفي سنة 1911 سافر إلى دمشق، وألقى في المسجد الأموي خطبته الشهيرة باسم الخطبة الشامية التي وصف فيها أمراض الأمة الإسلامية، ووسائل علاجها.
- وفي سنة 1912 عُيِّنَ بديعُ الزمان قائداً لقوات الفدائيين الذين جاؤوا من شرقي الأناضول، من الأكراد خاصة.
- وفي سنة 1916 تمكنت القوات الروسية من الدخول إلى مدينة (أرضروم) التركية، وقد تصدى النورسي وتلاميذه المتطوعون للقوات الروسية، وخاضوا عدة معارك ضدها، ثم جرح النورسي جرحاً بليغاً، ونزف نزفاً شديداً كاد يودي بحياته، الأمر الذي اضطر أحد تلاميذه إلى إعلام القوات الروسية بذلك، فاقتادوه أسيراً، وبقي في الأسر في (قوصطرما) سنتين وأربعة أشهر، ثم تمكن من الهرب من معسكرات الاعتقال، إثر الثورة البلشفية في روسيا.
عزة المؤمن:
وذات يوم قُدِّمَ هناك إلى المحكمة الحربية بتهمة إهانة القيصر الروسي.
أما قصة ذلك فهي كما يأتي:
كان خال القيصر والقائد العام للجبهة الروسية، "نيكولا نيكولافيج" يزور معسكر الأسرى فقام جميع الأسرى لأداء التحية ماعدا (سعيد النورسي). لاحظ القائد العام ذلك، فرجع ومرّ ثانية أمامه .. فلم يقم له كذلك، وفي المرة الثالثة وقف أمامه وجرت المحاورة الظريفة الآتية بينهما بواسطة مترجم القائد:
القائد: الظاهر أنك لم تعرفني؟
النورسيّ: بلى .. لقد عرفتك. إنك نيكولا نيكولافيج، خال القيصر، والقائد العام في جبهة القفقاس.
القائد: إذن فلِمَ تستهين بي؟
النورسيّ: كلا، إنني لم أستهن بأحد، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
القائد: وماذا تأمرك عقيدتك؟
النورسيّ: إنني عالم مسلم، أحمل في قلبي إيماناً، والذي يحمل في قلبه إيماناً هو أفضل من الذي لا إيمان له. ولو أنني قمت لك لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي ومقدساتي، لذلك فإنني لم أقم لك.
القائد: إذن فإنك بإطلاقك عليّ صفة عدم الإيمان، تكون قد أهنتني وأهنت جيشي وأمتي والقيصر كذلك، يجب تشكيل محكمة عسكرية للنظر في هذا الأمر.
تشكلت المحكمة العسكرية، وقُدِّمَ إليها سعيد النورسي بتهمة إهانة القيصر والأمة الروسية والجيش الروسي.
ويسود حزن في معسكر الأسرى ويلتف حوله الضباط الأسرى من الأتراك والألمان والنمساويين ملحّين عليه القيام بالاعتذار للقائد الروسي وطلب العفو منه، إلا أنه رفض ذلك بإصرار، قائلاً لهم:
¥