تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفي هذه البلدة صنع له أحد النجارين غرفة خشبية صغيرة غير مسقوفة، وضعت بين أغصان شجرة الدلب العالية حيث كان النورسي يقضي فيها أغلب أوقاته في فصلي الربيع والصيف، متعبدا لله، متأملاً متفكراً، وعاكفاً على تأليف رسائل النور طوال الليل، والناس يسمعون همهمات العالم العابد المتهجد، ولا يستطيعون الاختلاط به ومحادثته، والإفادة من علمه، لأن هذا محظور عليهم وسوف يكلفهم كثيراً.

أمضى النورسي في "بارلا" ثماني سنوات ونصف السنة، ألَّفَ فيها أكثر رسائل النور، وهو يعاني من عدة أمراض، ولا يشتهي الطعام، بل كان يكتفي من الطعام بكسيرات من الخبز مع قليل من الحساء "الشوربة" ولا يقبل هدية ولا تبرعاً ولا زكاة من أحد ... كان- كما قال عن نفسه- يعيش على البركة والاقتصاد.

وفي هذه المرحلة كان يؤلف ويكتب باللغة التركية المكتوبة بالحروف العربية، ويأمر تلاميذه بالكتابة بالحروف العربية، حفاظا عليها من النسيان، فقد كان أتاتورك قد ألغى الكتابة بالحروف العربية واستبدل بها الحروف اللاتينية.

وقد أسهمت النساء بنسخ الرسائل- الكتب- التي كان يمليها بديع الزمان على بعض تلاميذه في غفلة من الرقباء لأنه كان منفيا وموضوعا تحت الرقابة، ثم يقوم هؤلاء بتهريبها إلى النساء، ليسهرن في استنساخها، ويقضين الليالي في ذلك، حتى إذا أنجزنها، سارت بها ركبان طلبة النور في طول البلاد التركية وعرضها.

ورسائل النور هذه تدعو إلى إنقاذ الإيمان، وعودة الإسلام إلى الحياة.

وتصدى بها للعلمانيين والقوميين والسياسة الميكيافيلية القائمة على التزلف والنفاق والمصالح الشخصية. السياسة التي نَحَّتِ الدين جانبا، وولَّى أصحابها وجوههم نحو أوروبا، والسير في ركابها. ولهذا رأيناه في هذه المرحلة، يقف- بكل قوة- في وجه التيارات الإلحادية الشاملة، برغم ضراوة الهجمة وشراستها، وبرغم ما تعرَّض له من نفي وسجن واعتقال.

وهذا يعني، أن شعاره في هذه المرحلة: "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة" لا يعني أنه تخلَّى عن السياسة فعلا، بل أراد به حماية تلاميذه من شرور الأشرار السياسيين، ومع ذلك، لم ينجح هو ولا تلاميذه من الملاحقة والمحاكمات والسجون التي أطلق عليها النورسي وتلاميذه اسم: المدرسة اليوسفية.

وقد جاء في قرار اللجنة المدققة لرسائل النور في مدينة (دنيزلي):

"ليس لبديع الزمان فعالية سياسية، كما لا يوجد أي دليل على أنه يؤسس طريقة صوفية، أو قائم بإنشاء أي جمعية، وإن موضوعات كتبه تدور كلها حول المسائل العلمية والإيمانية وهي تفسير القرآن الكريم".

- عندما أطلق سراحه في الخمسينيات، كان في السابعة والسبعين من العمر، وكان يقول لزائريه أو الذين يرغبون في زيارته:

"كل رسالة- من رسائل النور- تطالعونها، تستفيدون منها فوائد أفضل من مواجهتي بعشرة أضعاف" ..

وكان قد طلب أكثر من مرة من تلاميذه طلبة النور، ألا يربطوا الرسائل بشخصه الضعيف، فيحطوا من قيمتها، لأن للإنسان أخطاء وعيوبا قد سترها الله عليه.

كما كان يدعو تلاميذه إلى عدم التعلق به، لا في حياته، ولا بعد مماته، فذلك له أضرار جسيمة على الدعوة.

- وكان النورسي يحب أعالي الجبال، كما كان يحب أعالي الأشجار الباسقة الشاهقة، وكان يفضل الصلاة على الصخور المرتفعة، وكان يقول لتلاميذه:

"لو كنتُ في قوة شبابكم هذا، لما نزلت من هذه الجبال."

لقد كان النورسي أمَّة في رجل، وربَّى تلاميذه بالقدوة، وحياته كانت أكبر كرامة .. إنه رجل عصر المصائب والبلايا والمهالك- كما قال عن نفسه- وهو عصرنا، وقد هيأ الأدوية الناجعة للجروح الإنسانية الأبدية، وقدَّمها إليها خلال رسائله وكتبه التي هي من نور القرآن العظيم.

وفاته:

توفي بديع الزمان النورسي في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1379هـ الموافق للثالث والعشرين من شهر آذار 1960م تاركاً موسوعة إيمانية ضخمة تسد حاجة هذا العصر، وتخاطب مدارك أبنائه، وتدحض أباطيل الفلاسفة الماديين، وتزيل شبهاتهم من أسسها، وتثبت حقائق الإيمان وأركانه بدلائل قاطعة، وبراهين ناصعة، جمعت في ثمانية مجلدات ضخام، هي: الكلمات- المكتوبات- اللمعات- الشعاعات- إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز- المثنوي العربي النوري- الملاحق- صيقل الإسلام. وقد ترجمت إلى اللغات العربية والإنكليزية، والألمانية، والأردية، والفارسية، والكردية، والفرنسية، والروسية وغيرها، ودفن في مدينة (أورفه).

وبعد الانقلاب العسكري في تركيا في 27/ 5/ 1960 قام الانقلابيون العسكر بنقل رفات الإمام النورسي إلى جهة غير معلومة.

وقد وصف شقيقه الشيخ عبد المجيد النورسي نقل رفات أخيه بديع الزمان في مذكراته، بعد خمسة أشهر من وفاته، فقد قالوا له:

"سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد النورسي من أورفه".

وقاموا بهدم قبر بديع الزمان، وقلت في نفسي: "لابد أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً، ولكن ما إن لمست الكفن، حتى خيل إليّ أنه قد توفي بالأمس. كان الكفن سليما، ولكنه كان مصفراً بعض الشيء من جهة الرأس وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء.

نقلاً عما كتبه الأستاذ:

عبد الله الطنطاوي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير