وكنت أنا والغسيري درسنا على ابن باديس سويا وكنا نتقاسم غرفة واحدة، وابتدأنا التدريس في وقت واحد، فخُيّرنا بين مدينتي مستغانم و غيليزان، فاختار الغسيري مستغانم لأن فيها صديقه مصطفى بن حلوش فاضطررت أنا لاختيار غيليزان واختير معي للقيام بالوعظ والإرشاد الشيخ نعيم النعيمي رحمه الله، وكانت هذه طريقة الجمعية تعين مديرا للمدرسة يشرف على التعليم وتعين معه واعظا يقوم بالدروس المسجدية وتوجيه العامة وإصلاح ذات البين.
فبقيت في غيليزان حوالي ثلاث سنوات (من 1943 إلى 1946 م) ثم قرر الشيخ البشير الإبراهيمي أن ألتحق بمدرسة دار الحديث بتلمسان لإدارتها. وذلك لأن مهام رئاسة الجمعية لم تدع الوقت للشيخ البشير لإدارة المدرسة وهو أول مدير لها منذ افتتاحها سنة 1937 م.
فرفضت بادئ الأمر لأمرين: الأول أن أهل تلمسان ليس من السهل التعامل معهم لأنهم ينفرون من الغرباء عن بلدتهم، والثاني أن العمل الذي أنجزناه في غيليزان بدأ يؤتي أكله وبدأت الحركة الإصلاحية تنتشر وكنا في بداية الأمر مرفوضين من طرف العامة في غيليزان ويسموننا بـ"الباليسية" (استهزاء منهم وهي تحريف لكلمة الباديسية وهم أتباع ابن باديس إلى الباليسية أتباع إبليس). فأردت أن أتأكد من أن الرجل الذي سيخلفني في غيليزان سيكون في المستوى المطلوب حتى لا يضيع عملنا سدى.
فاختار الشيخ العربي التبسي أحد تلاميذه، وطلب مني الإبراهيمي أن أدربه على الإدارة فبقي معي ثلاثة أشهر أدركت بعدها أنه لا يصلح لهذه المهمة. لكن الشيخ الإبراهيمي لم يقبل هذا الأمر لأن الرجل من اختيار التبسي والإبراهيمي لا يرفض اختيار التبسي.
ثم جاءني الأمر بالالتحاق فورا بتلمسان. وبعد أيام جاءت سيارة على متنها الإبراهيمي والتبسي ومحمد خير الدين. واستفسر الإبراهيمي عن هذا التطويل في الالتحاق بتلمسان، فقلت له: أنا رجل أكره الخيبة فإما أن أعمل عملا أنجح فيه وإما ألا أعمل ... فقال: هذا أمر مهم فعلا ... ثم قال: اشترط لذهابك إلى تلمسان، قلت: لي شرط واحد وهو ألا يتدخل أعضاء جمعية المدرسة في تسيير المدرسة، فقال: لك ذلك، ثم قال: اشترط أيضا، قلت: ليس لي أي شرط آخر، فقال: والمسكن؟ قلت: نعم أريد أن أكون مع أهلي ولكنت في حدود طاقتكم. ثم قال: اشترط، فتذكرت وقلت: لي شرط أخير وهو ألا يتوسط نساء تلمسان بزوجي في حل المشكلات المدرسية، فقال: لك ذلك.
فالتحقت بتلمسان، وعند تنصيبي لإدارة مدرسة دار الحديث قدمني الشيخ الإبراهيمي بثناء عاطر فقال: هذا ابن الحركة الإصلاحية وتلميذ ابن باديس وملتزم بالجمعية إلخ ... فلا تقلقوه بالتدخل في شؤون المدرسة إذا أردتم أن يتقن عمله، ولا تعرضوا مشكلاتكم عليه في الطريق فمكتبه مفتوح دائما لكم. ثم هناك أمر آخر: لا تتوسطوا بنسائكم لدى أهله واعرضوا أموركم عليه مباشرة.
فعشت في تلمسان مهابا محترما منذ ذلك التقديم الذي قدمني به الإبراهيمي رحمه الله.
ـ[محمد الأمين فضيل]ــــــــ[23 - 10 - 08, 12:53 ص]ـ
ذكريات الشيخ رمضان عن الشيخ الإبراهيمي (تابع):
وبقي الشيخ رمضان مديرا لدار الحديث إلى غاية سنة 1953 م حين عُيّن مفتشا عاما لمدارس جمعية العلماء. وفي تلك الفترة كان على اتصال دائم بالشيخ الإبراهيمي رحمه الله، والشيخ يتنقل بين العاصمة وبين تلمسان. وحين ولد للشيخ رمضان ابنه عقبة حنّكه الشيخ الإبراهيمي وكان يريد تسميته بـ "عبد المالك" لكن الشيخ رمضان اختار اسم "عقبة" وعلّل اختياره بأن عقبة بن نافع من الفاتحين الأولين الذين أدخلوا الإسلام لهذه الديار ومع ذلك فإننا لا نكاد نجد من يسمي ابنه عقبة ...
وبما أننا بصدد الكلام عن الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله، فإني لاحظت أن الشيخ محمد الصالح رمضان كثبر الكلام عن الشيخ ابن باديس رحمه الله ولا يكاد يخلو مجلس من مجالسه من الحديث عنه لكن حديثه عن الإبراهيمي أقل بكثير ...
وفاة الشيخ الإبراهيمي:
حينما كنت بصدد جمع مواد الكتاب الذي شرفني الشيخ محمد الصالح رمضان رحمه الله بجمع مادته وهو كتاب "محمد الصالح رمضان في نظر زمرة من أصدقائه ومعارفه والدارسين لأعماله والباحثين في إنتاجه"، أمدني الشيخ بمجموعة لا بأس بها من الرسائل التي كانت تصله من الجزائر وخارجها. ووقفت ضمنها على رسالة من الشيخ بوعمران رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر حاليا يطلب منه أن يصف له جنازة الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله لأنه يحضرها ووجدت معها رد الشيخ رمضان على الرسالة، وذلك أن الشيخ رحمه الله كان كثيرا ما يحتفظ عنده بنسخة من رده على الرسائل التي تصله. وإليكم الرسالة والرد عليها:
1 - رسالة الدكتور الشيخ بوعمران:
تونس يوم الأحد 23 ماي 1965
صديقي المحترم
سلاما ورحمة
إنا فقدنا ذلك الرجل العظيم الأستاذ العلامة الشيخ البشير تغمده الله برحمته الواسعة وأقره في جنة الخلد. قرأت النبأ في الصحف ولم أجد فيها ما يشفي وكم تمنيت أن أكون من الحاضرين بالعاصمة للمشاركة في الجنازة مع الإخوان والأصدقاء. ولا شك أن الجنازة كانت من الأيام المشهودة. إني تألمت من هذه المصيبة الكبرى وإن كان لا بد ولا مفر منها. والحمد لله على وفاة الأستاذ بأرض بلاده بين ذويه وتلاميذه وخلانه. فهو قضى حياته كلها وجاهد وعرف السجن والمنفى وذاق مرارة الهجرة من أجل الرسالة الشريفة في خدمة الإسلام والوطن والعروبة. فكتب له أن يرى الجزائر العزيزة مستقلة وأن يعيش فيها في عز وكرامة وذلك جزاء المخلصين لله وللأمة. ولنا في حياته وآثاره عبرة وأي عبرة. أرجوك أن تمدني في أقرب وقت بعنوان ولده الدكتور أحمد لأقدم له تعزيتي.
كنت في انتظار رسالة منك من حين إلى آخر وذلك خاصة بعدما طلبت بعض المعلومات تتعلق بإلقاء محاضرة. وإن تعذر ذلك فلا مانع من المراسلة - وأنت تعرف كم أقدر مراسلة الأصدقاء -
حاولت أثناء إقامتي الأخيرة بالعاصمة الاتصال بالأستاذ قويدري تيلفونيا ولكن لم أفلح، هل لك أن تخبره وتبلغه سلامي؟ لك الشكر سلفا. وسلامي وتحياتي إلى الأسرة وإلى الشيخ عبد اللطيف والأصدقاء.
من أخيك الشيخ أبو عمران
¥