وهو في هذا لا يوجد من يقاربه في بلده، أكاد أجزم بهذا، وأنا أعلم أن بالكويت من يهتم بجمع المخطوطات وقد يسافر لأجلها ويتكلف، لكن لخاصة نفسه ولمشاريعه الخاصة، ولعلاقاته المتعددة التبادلية النفعية، أما ماهر الساير فلم يكن كذلك بل كان كل شيء يفعله للبذل والإفادة، مع عدم انتظار الأجر ولو بكلمة شكر.
وقد سن سننا حسنة في تخصصه تحسب له نسأل الله تعالى له دوام أجرها ما دامت السماوات والأرض.
وهو مع ذلك كما أشرت سابقا في غاية التدين – لا نزكيه على الله تعالى – صواما قواما، مع العزوف عن زغارف الدنيا، والأدب الجم، وقد عاشرت الرجل قريبا من خمس سنوات، ما سمعت – جزما – منه كلمة يحتاج أن يعتذر عليها، رضي الله تعالى عنه، بل كان غاية في انتقاء ألفاظه وإرضاء الناس بما لا يغضب الله، والتحنن والعطف عليهم، بل ومساعدتهم دون انتظار ولا كلمة شكر منهم، بل كان دائما يرجو الشكر من الله، وكان دائم التكرير لكلمة: نحن نعمل لله لا لأحد.
لا تراه متجهما بل دائم البسمة والحنو، يضع كل شيء في قدره، وينزل كل أحد في مقداره، حكيم في أقواله وأفعاله، قليل الكلام، وإن تكلم فلغاية.
وقد خصه الله تعالى بصبر كبير، مع دقة وترتيب قل أن تجد أحدا يتمتع بهما، ثم همة لا تعرف الكلل ولا الملل، يضرب بمثلها الأمثال في كتب الأدب والرجال.
وقد بلغ من حرصه على جمع المخطوطات لخدمتها وبذلها لأهل العلم في كل مكان أن كان يختار سفراته الصيفية إلى البلاد التي يرى أن بها دورا للمخطوطات سواء أكانت حكومية أو خاصة، فحكر نفسه في العمل في داخل بلده وفي خارجها في أوقات عمله وفي أوقات راحته، بغية الأجر من الملك القدوس الرؤف الرحيم.
ويكفي أن تعلموا أن رحلته إلى تركيا التي توفي في طريق عودته منها، وإن كان في ظاهرها رحلة صيفية واستجمام من عمل السنة إلا أنه اختارها خصيصا رغبة في زور إدارات المخطوطات وأماكنها بحيث يستطيع استيرادها للكويت مع خدمتها بما تقتضية صناعة العمل في المخطوطات، فالرجل مات وهو في سبيل طلب العلم وحفظه.
بل بلغ من حبه للعمل في المخطوطات أن كان يعمل فيها في أوقاته الخاصة، ولا أذكر أني رأيته أضاع دقيقة واحدة سواء في عمله أو خارج عمله، وكأن الله تعالى ألهمه ذلك لعمره القصير فلم يبلغ الخمسين رضي الله تعالى عنه حين وفاته.
وفوق كل ما سبق فلم يكن الرجل عاطلا من العلم الشرعي، بل كان فقيها حنبليا، تعلم على يدي الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، وقد أخبرني الثقة أن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى سئل عن تلاميذه بالكويت فعد أربعة منهم ماهر الساير، وقد كان رحمه الله تعالى من أوائل من سافر لطلب العلم على الشيخ مع رهط من أهل الكويت، وكان في أول أمره يدرس كتاب دليل الطالب ثم تفرغ للعمل في المخطوطات لعدم رؤيته من يقوم على ثغرها في بلده الكويت.
وابنه عبد الرحمن من طلبة العلم أيضا - وهو ممن أصيب معه في الحادث وهو في غرفة الإنعاش نسأل الله تعالى أن ينجيه ويلهمه الصبر - يطلب العلم عند الشيخ سامي صقير وهو القائم مكان الشيخ ابن عثمين الآن بحسب ما بلغني.
ورغم ما عنده من علم ومكنة عالية للغاية في الشرع بعامة وعلم المخطوطات بوجه خاص، لا تجد كبير أحد يعرفه من طلبة العلم، اللهم إلا المتخصصين الذين يمارسون المخطوطات أو يعملون فيها تحقيقا ونشرا أو من الدراسين بالكليات الأكاديمية، أو من أصحاب مراكز المخطوطات داخل الكويت أو خارجها سواء كان خاصة أو حكومية، كلهم معترفون بفضله عارفون بمقداره، متيقنين علو كعبه في تخصصه.
وقد كان رحمه الله تعالى سنيا على الجادة، سلفي الإعتقاد، لم أره تلبس ببدعة البتة، وقد كان دائم الأمر بالرجوع إلى العلماء ولزوم كلامهم وإرشادتهم، وكان شديد النهي عن الخروج عن طريقهم وإرشاداتهم.
ولا أظن أن مصيبة موت هذا الرجل على ذويه وإخوانه فقط، بل والله على أهل الإسلام بعامة، فموت العالم ثلمة في الإسلام كما قال أهل العلم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولا أحسب أن تلك الأسطر تكفي للوقوف على مآثر الرجل وكريم خصاله، والذي أعتقده أن الرجل يعد من رجالات الكويت الذين شاركوا في نهضتها الشرعية والعلمية في تلك الحقبة من الزمن، فرحمك الله تعالى يا أستاذي وأخي وصديقي، ووالله إن القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا أبا فهد لمحزونون.
لمثل هذا يذوب القلب من كدم * إن كان في القلب إسلام وإيمان
فيا رجالات الحديث والعلم في كل صقع وصوب ترحموا على أخيكم واسألوا له المغفرة ورفعة القدر عند الله تعالى فقد كان مدة حياته يعمل لهذا اليوم ولا نزكي على الله تعالى أحدا.
اللهم إنا نشهد إن عبدك أبا فهد قد بذل ما يستطيع في عمره القصير، وخدم دينك من خلال العمل في أوعية الشرع بما أطاقت نفسه وتحمله قلبه، بل فوق ما أطاقت نفسه وتحمله قبله، نشهد على ذلك، فاللهم يارب السماوات أره اليوم من عفوك ومغفرتك وسعة رحمتك ما تقر به عينه، وتجم به فؤاده، اللهم أسكنه الفردوس الأعلى هو وزوجته وابنه يوسف وابنته حفصة ممن توفوا معه في الحادث، ونج ابنيه عبد الرحمن وفهد، وعثمان وعائشة ونسيبه، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفنتا بعده، لا إله إلا أنت أنت مولانا.
¥