وظل الدكتور شاكر بعدها، موضع احترام وتقدير للرئيس هواري بومدين رحمه الله، وتقدير القيادات الكبرى في حزب جبهة التحرير الجزائري، أثمرت هذه المآثر نتائجها على سورية في حرب (1973)، قبل أن تؤول الجزائر إلى ما آلت إليه وقبل أن يدفع المتفرنسون أنصار اللغة الأمازيغية لتتحدى المكاسب التي حققتها حركة التعريب التي ناضل من أجلها الدكتور شاكر الفحام وكان هاجس التعليم والتعليم العالي خاصة يشغل بال الدكتور شاكر، فلما قامت الحرب الأهلية في لبنان انقسمت الجامعة اللبنانية إلى جامعة بيروت الشرقية وجامعة بيروت الغربية، واتجه أكثر الأساتذة اللبنانيين إلى الجامعة الشرقية، حتى كادت الغربية تفرغ من المدرسين، فما كان من الدكتور شاكر الذي كان رئيساً لجامعة دمشق إلا أن عضَّد جامعة بيروت الغربية ببعض الأساتذة من جامعة دمشق، فقاموا بدعم الجامعة الغربية في ظل ظروف لاتخلو من الخطورة، على مدار عدة سنوات كنا نراوح من جامعة دمشق إلى جامعة بيروت الغربيّة، حتى أذِن الله، وصمتت مدافع الحرب الأهلية في لبنان، واستعادت جامعة بيروت الغربية عافيتها، فتوقف الأساتذة السوريون عن المخاطرة أسبوعياً إلى الجامعة اللبنانية، وظلت هذه المساعدة العلمية في طيّ الكتمان؛ لأن الدكتور شاكر الذي أصبح وزيراً للتعليم العالي يهمُّه خدمة العلم والتعليم ولا يهمه الإعلام والإعلان والجهر حتى بعمل الخير.
اسمحوا لي -سيداتي وسادتي- أن أحدثكم عن جوانب من علم الرجل، هذا الرجل الذي اختطفته الوزارات والإدارة منا، من ميدان العلم والأدب، ولكنه - رغم هذا الاختطاف الذي فرضته مصلحة الوطن وثقة الرئيس الخالد، ظل مشدوداً إلى ميدان العلم والأدب، فكان يترك وزاراته في الساعة الثانية ليلتقى بطلابه في كلية الآداب محاضراً مناقشاً لرسائل جامعية، وإذا كانت شهادة الصديق بصديقه مجروحة، فلآتكم بشهادة أكبر مؤسسة ثقافية في الوطن العربي تحكم على إنتاج العلماء والمفكرين، تلكم هي مؤسسة الملك فيصل التي منحته جائزتها عندما أعْلَنَتْ عن موضوعها عام 1409 فكان «الدراسات التي تناولت الشخصيات الأدبية في الشعر والنثر حتى نهاية القرن الثالث الهجري» وهي أرفع جائزة عالمية في الوطن العربي نالها ملوك ورؤساء وزارات، وشخصيات مرموقة كشوقي ضيف, وناصر الدين الأسد, وإحسان عباس, ويوسف القرضاوي, وشكري عياد, وروجيه غارودي, وفي ميدان العلوم نالها الدكتور أحمد زويل الذي حاز مؤخراً جائزة نوبل العالمية للعلوم أيضا.
أتاحت لي فرصة إقامتي في الرياض وبالقرب من مركز الجائزة أن أطّلع على الثناء العاطر الذي حملته الصحافة ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة على الجانب العلمي الذي يتمتع به الدكتور شاكر، وكان من بعض جوانبه أن تقدمت أثنينية الأستاذ عبد المقصود خوجه في جدة بإقامة حفلة تكريم شهدها كبار المثقفين في المملكة العربية السعودية, فإذا أضفت إلى هذا الكتب والمقالات التي كان يسرق نفسه من العمل الإداري ليكتبها كنظراته في ديوان بشار، أو إمكانية تصميم نظرية عربية لغوية منسجمة مع خصائص الحاسوب، أو الكتب التي حققها ككتاب اللامات لأبي الحسن بن فارس، والدلائل في غريب الحديث للسرقسطي، وعشرات الرسائل الجامعية التي أشرف عليها وناقشها، أدركت أن الرجل متعلق بالأدب، متشبث باللغة العربية، ويلذ له أن يكون من سدنتها. .
هذا غيض من فيض مما أعرفه من سلوكيات الرجل، ذكرت أقلها وسكت عن أكثرها لأني لا أحب أن أثقل عليكم، ولكنني يحلو لي أن أضيف إلى مكارمه العلمية والإدارية التي تحدثت عن بعضها مكارم خُلُقية، فقد أمضى ثمانية عقود من عمره عف الجيب، عف الإزار، وتذكرني كناية (عف الجيب) بقصة جعلتني أكبره عندما تواعدنا أن نذهب لحفل تكريم الدكتور وهبة الزحيلي، فسألته عن موقع بيته ورقم هاتفه لأصطحبه في سيارتي فقال لي: أنت تعرف بيتي ورقم هاتفي لم يتغيرا منذ ثلاثين سنة، فكبر الرجل في عيني لأنه تسلّم وزارة التربية مرتين، ووزارة التعليم العالي مرتين ورئاسة الجامعة ومناصب أخرى، كان فيها من صنّاع القرار.
ولم يأخذ برأي أبي حيان التوحيدي الذي كان يقول: «يتنافس الرجال في كل زمان، على لقمة أسوغ من لقمة، ومركوب أفره من مركوب، ومسكن أفخر من مسكن، وعيش أرغد من عيش وسكن أجمل من سكن وفراشٍ أوطأ من فراش».
وإنما أخذ الدكتور شاكر بقول الشاعر الآخر:
وأفضل الناس مابين الورى رجل = تُقضى على يده للناس حاجات
لايقطعن عادة الإحسان عن أحد = مادام يقدر والأيام تارات
ياأبا مالك، وذكرك فخر = ياأحق الرجال بالتكريم
اسمح لي ونحن في مأدبة التكريم، وشعارنا الاعتراف لكل ذي فضلٍ بفضله، بعيدين عن المجاملة، أن أتوجه بالتجلَّة والتقدير للسيدة مديحة العنبري، الزوجة الوفية التي وقفت بجانبكم في اغترابكم سفيراً، ورافقتكم وزيراً، طوال أيام جهودكم ونضالكم في خدمة هذا الوطن، وخدمة العلم والتعليم، واللغة العربية ويحق لنا أن نعترف بامتياز بالعبارة التي علمتنا إياها أدبيات لغتنا، وأدبيات أمتنا أن (وراء كل عظيم امرأة).
سيداتي سادتي:
بعض هذا الذي قلتُه يعرفه الدكتور شاكر ويذكره، وبعضه صنعه ونسيه، ولكنَّ التاريخ وذاكرة الوطن لم تنسَ، وسيظل التاريخ يسجِّل على صُناع القرار، والجالسين على كراسي المسؤولية مآثرهم، قد تُطوى الآن في زحمة الأحداث ولكنها ستنشر في يوم، ليعرف جيل الأحفاد بعضَ ماحققه الأجداد، ولعله ينهض في قادمات الأيام جيل رجال يقولون:
لسنا وإن كَرُمت أوائلنا = يوماً على الآباء نتكل
نبني كما كانت أوائلنا = تبني، ونفعل مثلما فعلوا
أيها الجمع الكريم: أتوجه أيضاً بالشكر للدكتور علي عقلة عرسان، رئيس اتحاد الكتاب العرب، الذي تقدم بهذه المبادرة، وأرجو أن تتبعها مبادرات، تقال فيها الكلمة الصادقة، وتُشهد فيها الشهادة الحق، التي عايشناها، ونظل ننشد:
قادة الفكر في ربوع بلادي = يا أحق الرجال بالتكريم
خلفكم في الخطا مسيرة جيل = يتحراكم بشوق الفطيمِِِ
والسلام عليكم
(الدكتور شاكر الفحَّام ـــ مجموعة باحثين:
أدباء مُكّرمون ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب في دمشق ـ 2006م)
¥