[الشيخ الدكتور: عبد الغني التميمي]
ـ[ذو المعالي]ــــــــ[13 - 10 - 08, 05:46 ص]ـ
العلامة الدكتور: عبد الغني أحمد التميمي
كُنتُ أن وقفتُ على منظومةٍ صغيرةٍ في الآداب، أسلوبها سهلٌ، و سلسلةٌ، و جميلة، و كثيرةُ المعاني، بحجمِ الكفِّ، غلافها أصفر، مكتوبٌ على طُرَّتها " إتحاف الشباب بأرجوزة الآداب "، كانت هي المدخلُ الذي منه ولجتُ دار أستاذي الكبير البحر الأدب الضليع عبد الغني أحمد جبر مُزهر التميمي، الناظمِ لتلك الأرجوزة، لم أكن أعلم أين مسكنُه، بَيْد أنني مُساقٌ بقدر الله إلى أحد الفضلاءِ ممن لهم سَعةٌ في العلاقات التواصلية مع الناس، كان ذلك أخونا الأستاذ يوسف العتيق، سألته عن الناظم فقال: أمهلني يومين، وكان وفيَّاً بذلك، فلم يتمَّ يومانِ إلا و رقم هاتفِ أستاذنا عندي.
اتصلتُ به، فسلَّمتُ، فردَّ بصوتٍ كلُّه هدوءٌ و وقارٌ و أدب، فأخبرتُه بقصتي مع أرجوزته، و رغبتي اللقاء به و زيارته، رحَّبَ بي، لا أدري متى كان ذلك، و لكن التقديرُ الأكبرُ أنه كان في عام 1415، حدَّد لي مكاناً ألتقي فيه، فجاء بسيارته راكباً و يقودها ابنه الأكبر عبد الله، نزلَ فسأل: أنت عبد الله، فعانقته و قبلتُ رأسَه، كان أشيَبَ أبيضَ منوَّر الوجه، هادئاً بسكينة ووقار الأكابر، مليئاً أدبا و خُلُقاً، و لعلَّ الأدب و الخُلُقَ اقتبسا منه.
انتقلتُ تابعاً لهما بسيارتي حتى وصلتُ بيته، و أدخلني داراً تأثرَتْ بجمالِ و سكينة أهلها، أفرغَ المجلس لي و له، فخرج ابنُه و جعلنا وحِيْدَيْن مُنفرِدَيْن، سألني عن أرجوزته و كيف وجدتها و ما أعجبني فيها، لا أذكرُ كيف كان المجلسُ إذْ ذاك، و ما من شكٍّ أنه من أعمرِ المجالس التي جلستها.
تكررتْ زياراتي لأستاذنا الكبير، و توثَّقَتْ صِلتي به كثيراً، و كان مؤدِّبا في حديثه مُربِّيا في أفعاله و تصرفاته حكيما بصيراً، كنتُ أسأله عن بعضِ من يَعملُ بالتحقيق فكان صريحاً في حديثِه، إبانةً للحق و الصوابِ، حتى شَرعتُ في القراءةِ عليه، بعضَ الكتبِ، كان ذا عنايةٍ بي، و يقول ذات مرةٍ: " لي ابنان كلاهما عبد الله، أحدهما من صُلبي و قد ذهب إلى الأردن للدراسة، و الآخرُ أنت و ها أنا أراك، فلست إلا أحد أبنائي "، تلك من المفاخر التي أفتخرُ بها، و كان من نتاج ذلك حرصُه الكبير و متابعته لأحوالي، بجدٍّ كنتُ أشعرُ بأبوته لي و بنوتي له، و لا أبُعد نجعةً إذا قلتُ قلَّ من رأيتُ مثلَه، و قد رأيتُ و لقيتُ جمَّاً كبيراً.
كنتُ وقفتُ على كتاب ابن المُلَقَّنِ " التذكرة " في علم المُصْطَلح، فطلبتُ منه أن أقرأها عليه، فقرأتها عليه في مجلسٍ واحدٍ في غُضون الساعتين، و من الطرائفِ في ذلك أن المؤلفَ كتبها في نحو الساعتين، و المُحقِّقَ، علي الحلبي، اعتنى بها في غضونهما، و قراءتي في غضونهما، فذكرتُ تلك الموافقة لأستاذنا فاستملحها بابتسامةٍ وقورة.
كان مُلمَّا بكثيرٍ من العلوم، الشرعية و الأدبية و الفكرية، كما أنه كان شاعراً مُبدعاً متألقاً، و شعرُه أقْصَويٌّ فِلِسطينيٌ، كانت سَعة علومه و معارفه مُغريَةً إيايَ أن أنوِّعَ في قراءتي عليه، فقرأتُ عليه في " الأدب المُفرَد " و " شرحِ علي مُلا " لـ " نُزهة النظر " و " البُخاري " و " الآجرومية " و " الورقاتِ "، و كانت تعاليقُه مُحكَمةً، و مضبوطة، اجتمعَ فيها صَنعةُ العلم و العقل، و قلَّ أن توجدا مُجتمعتين في أحدٍ.
تخلَّلَ ذلك فترةُ انقطاعٍ، كنتُ حينها بدأتُ بشرحِ " أرجوزته " حتى قاربتُ النهايةَ، و بعدها كان لي به تواصلٌ، من عجيبِ أمرِ أستاذنا المباركِ أنَّه لا يشترطُ و لا يَمَلُّ من مجلسِ الدرْسِ، و لو طالَ، و مهما كان الوقتُ، فقد كان حيناً في العصرِ، و حينا بعد العشاءِ، و حينا الظهرَ على طلبِهِ و رغبته، و على بُعد مكانه عنِّي فقد كان عاذراً أي طاريءٍ يمنعُ مجيئي، في تواصلي معه بعد فترةِ الانقطاعِ و التقائي به، ذكرتُ له شرحي على " أرجوزته " فأيَّد، بعد الإذنِ، و شجَّعني على إتمامها، و لكنْ حالَ دون الإتمامِ انشغالٌ، و فُقدانٍ للأرجوزةِ، و عدم وُجدانها بعد البحثِ عنها.
¥