ثم أخاف أن يسمعني بعض جواسيس الديوان، فأسرع الكرة إلى الدرة لأحفظ درس العربية، الذي كان يلقيه عليّ أبي، وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي، فيكتب لي حذاءه الحرف العربي، ويقول لي: هذه حروفنا. ويعلمني النطق بها ورسمها، ثم يلقي عليّ درس الدين، ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه نصلي خفية في هذه الغرفة الرهيبة.
وكان الخوف من أن أزل فأفشي السر، لا يفارقه أبداً، وكان يمنحنني فيدس أمي إليّ فتسألني:
ماذا يعلمك أبوك؟
فأقول: لا شيء
فتقول: إن عندك نبأ مما يعلمك، فلا تكتمه عني.
فأقول: إنه لا يعلمني شيئاً.
حتى أتقنت العربية، وفهمت القرآن، وعرفت قواعد الدين، فعرفني بأخ له في الله، نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا وقرآننا.
* * * * * * * * *
وأشتدت بعد ذلك قسوة ديوان التفتيش، وزاد في تنكيله بالبقية الباقية من العرب، فلم يكن يمضي يوم لا نرى فيه عشرين أو ثلاثين مصلوباً، أو محرقاً بالنار حياً، ولا يمضي يوم لا نسمع فيه بالمئات، يعذبون أشد العذاب وأفظعه، فتقلع أظافرهم، وهم يرون ذلك بأعينهم، ويسقون الماء حتى تنقطع أنفاسهم، وتكوى أرجهلم وجنوبهم بالنار، وتقطع أصابعهم وتشوى وتوضع في أفواههم، ويجلدون حتى يتناثر لحمهم.
واستمر ذلك مدة طويلة، فقال لي أبي ذات يوم: إني أحس يا بني كأن أجلي قد دنا وأني لأهوى الشهادة على أيدي هؤلاء، لعل الله يرزقني الجنة، فأفوز بها فوزاً عظيماً، ولم يبق لي مأرب في الدنيا بعد أن أخرجتك من ظلمة الكفر، وحملتك الأمانة الكبرى، التي كدت أهوي تحت أثقالها، فإذا أصابني أمر فأطع عمك هذا ولا تخالفه في شيء.
* * * * * * * * *
ومرّت على ذلك أيام، وكانت ليلة سوداء من ليالي السِّرار، وإذا بعمي هذا يدعوني ويأمرني أن أذهب معه، فقد يسر الله لنا سبيل الفرار إلى عدوة المغرب بلد المسلمين فأقول له: أبي وأمي.؟
فيعنف عليّ ويشدُّني من يدي ويقول لي: ألم يأمرك أبوك بطاعتي؟
فأمضي معه صاغراً كارهاً، حتى إذا ابتعدنا عن المدينة وشملنا الظلام، قال لي:
اصبر يا بني .. فقد كتب الله لوالديك المؤمنين السعادة على يد ديوان التفتيش.
* * * * * * * * *
ويخلص الغلام إلى بر المغرب ويكون منه العالم المصنف سيدي محمد بن عبد الرفيع الأندلسي وينفع الله به وبتصانيفه.
بقلم: علي الطنطاوي
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[19 - 02 - 09, 02:29 م]ـ
بحثت عن سيرة ذلك العالم رحمه الله ولم أجد شيئا، لعل الأخوة بارك الله فيهم ينبطون لنا سيرته من أماكنها ....
ـ[كاتب]ــــــــ[19 - 02 - 09, 04:20 م]ـ
مدَّ الله عمرك في طاعته ... ونفع بك.ورحم الله الشيخ.