7 - قراءة التطريب بترديد الأصوات، وكثرة الترجيعات، وقد بحث ابن القيم – رحمه الله تعالى – في هذه المسألة بحثًا مستفيضًا، وبعد أن ذكر أدلة الفريقين المانعين والمجيزين، قال رحمه الله تعالى ([6]):
(وفصل النزاع، أن يُقال: التطريبُ والتغنِّي على وجهين، أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلُّف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خُلِّي وطبعه، واسترسلت طبيعتُه، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، وإن أعان طبيعتَه بفضلِ تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى الأَشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: ((لَو علمتُ أَنَّك تَسْمَعُ لحَبرتهُ لكَ تَحبِيرًا)).
والحزين ومن هاجه الطربُ، والحُبُّ والشوقُ، لا يملك من نفسه دفعَ التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوسَ تقبلُه وتستحليه لموافقته الطبع، وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبِّع، وكَلِفٌ لا مُتَكَلِّف، فهذا هو الذي يتأثر به التالي والسامعُ، وعلى هذا الوجه تُحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.
الوجه الثاني: ما كان مِن ذلك صناعةً من الصنائع، وليس في الطبع السماحةُ به، بل لا يحصُل إلا بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن، كما يتعلم أصوات الغِناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزانٍ مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلُّم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلفُ، وعابوها، وذمُّوها، ومنعوا القراءةَ بها، وأنكروا على من قرأ بها.
وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباهُ، ويتبين الصوابُ من غيره.
وكلُّ من له علم بأحوال السلف، يعلم قطعًا أنهم بُرآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرأوا بها، ويُسوِّغوها، ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسِّنون أصواتَهم بالقرآن، ويقرؤونه بِشجىً تارة، وبِطَربِ تارة، وبِشوق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: ((لَيسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَغنَّ بالقرآنِ)) وفيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار بالواقع الذي كلُّنا نفعله، والثاني: أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم) انتهى.
وتأمل قوله: (من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم) فإنه فقه عظيم له دلالاته، فرحم الله ابن القيم، ما أدق نظره وفقهه.
وللحافظ الذهبي – رحمه الله تعالى – كلام جامع، يخاطب فيه من له شعور وإحساس، أسوقه بنصه، لينتفع به من شاء الله من عباده ([7]):
(فالقرَّاء المُجَوِّدة: فيهم تنطع وتحرير زائد يؤدِّي إلى أن المجود القارئ يبقى مصروف الهمة إلى مراعاة الحروف والتنطع في تجويدها؛ بحيث يشغله ذلك عن تدبر معاني كتاب الله تعالى، ويصرفه عن الخشوع في التلاوة، ويخليه قوي النفس مزدريًا بحفاظ كتاب الله تعالى، فينظر إليهم بعين المقت وبأن المسلمين يلحنون، وبأن القراء لا يحفظن إلا شواذ القراءة، فليت شعري أنت ماذا عرفت وماذا عملت؟! فأما عملك فغير صالح، وأما تلاوتك فثقيلة عرية من الخشعة والحزن والخوف، فاللهتعالى يوفقك ويبصرك رشدك ويوقظك من مرقدة الجهل والرياء.
وضدهم قراء النغم والتمطيط، وهؤلاء من قرأ منهم بقلب وخوف قد ينتفع به في الجملة، فقد رأيت منهم من يقرأ صحيحًا ويطرب ويبكي، ورأيت منهم من إذا قرأ قسَّى القلوب، وأبرم النفوس، وبدّل الكلام، وأسوأهم حالاً الجنائزية.
وأما القراءة بالروايات وبالجمع فأبعد شيء عن الخشوع، وأقدم شيء على التلاوة بما يخرج من القصد، وشعارهم في تكثير وجوه حمزة وتغليظ تلك اللامات وترقيق الراءات.
اقرأ يا رجل وأعفنا من التغليظ والترقيق وفرط الإمالة والمدود ووقوف حمزة، فإلى كم هذا؟!
وآخر منهم إن حضر في ختم، أو تلا في محراب؛ جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت والتهوع بالتسهيل، وأتى بكل خلاف، ونادي على نفسه: (أنا فلان، اعرفوني فإني عارف بالسبع).
إيش نعمل بك؟ لا صبحك الله بخير، إنك حجر منجنيق، ورصاص على الأفئدة) اهـ.
والذهبي – رحمه الله تعالى – من علماء القرآن، فهو كلام خبير بالقوم، فاشدد يدك عليه.
8 - هَذُّه كَهَذِّ الشِّعر.
¥