تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ـ[محمد زياد التكلة]ــــــــ[16 - 07 - 09, 06:03 ص]ـ

بقية السلف

د. مهندس/ عبدالله بن صالح الخليوي

[email protected]

لجينيات

قابلته في مجلس أخي في ليلة من ليالي رمضان ولم أقابله قبل ذلك فلم أتعرف عليه من أول نظرة ... لم يكن متصدرا المجلس في جلوسه أوكلام .. هش وبش وأثنى ودعا فعرفته وهممت بتقبيل رأسه بل أصريت فصدني برفق وأبى وامتنع. عجيب ذلك الرجل جد عجيب .. جمع السمت كله والخلق كله والتواضع كله والبساطة كلها والعلم كله والعمل كله .. ابن جبرين علم في رأسه نار وإمام وعلامة بل هوشيخ الإسلام في عصره وفقيه زمانه خطبته الدنيا وتقربت إليه وتزينت له وتجملت فصدها وركلها كما يركل الطفل الكرة ومضى في طريقه الذي ارتضاه لنفسه واطمأنت إليه سريرته، مضى كما عهدناه شامخا محلقا وقورا بشوشا يبكي أوضاع المسلمين ويدعو لهم ليل نهار وقته ليس ملكه، لم يجعل لنفسه إلا فضول الأوقات أما الباقي فللناس وهكذا تكون الهمم التي لايطيقها إلا الكبار والكبار فقط. رحل ابن جبرين وارتحل ولا بقاء لحي، لكنه ارتحال من نوع آخر لرجل فريد قل أن يجود الزمان بمثله، رحل في يوم مشهود سكنت فيه ذرات الغبار التي خوفونا بها قادمة من أرض الرافدين، أجل سكنت وبطأت سيرها –بأمر ربها- لتسارع الجموع الغفيرة من كل أنحاء المملكة في تأبين هذا العلم الهمام في يوم مشهود لن يمحي من ذاكرة الناس، يوم طأطأت له الرجال هاماتها إجلالا وتقديرا وإكراما وتبجيلا وعرفانا بالفضل واعترافا بالإمامة في الدين، يوم من أيام السنة لكنه فريد بكل المقاييس، ذرفت فيه العيون المودعة وكظت العيون وحولت من كل بيت مأتما لرحيل فذ من الأفذاذ وعلم من الأعلام ورأس من الرؤوس وقامة من القامات.

رجل ماعاش لنفسه أبدا، أنفق وقته بل عمره كله في خدمة الناس وقضاء حاجاتهم ونشر الهدي بينهم وحمل لواء السلف الصالح، لم يجزع على شيء فاته من الدنيا أبدا، عاش مطمئن البال مرتاح الضمير لم يستهوه جر العباءات ولا مداهنة الكبار ولا مزاحمة أرباب الدنيا ولا التصدر في المجالس ولا التربع فوق منابر الإعلام. رجل عرف مايريد وكأنه يرمق كل يوم جنة الرحمن ويراها بأم عينه فيغذ السير لها غير آبه بلعاعات الدنيا وحظوظها الزائلة الفانية. كان يدرك أن الدنيا ليست بدار مقر وليست لحي سكنا فأعرض عنها فجاءته راغمة جاثمة. يالله كم لهذا الرجل من مكانة عظيمة في قلوب الناس تعدل كل حظوظ الدنيا وقناطيرها المقنطرة من الذهب والفضة والأنعام والحرث.

هو زاهد بكل المقاييس لاشك في ذلك وليس حديث العاطفة التي فرضها الموقف بل هو سيد الزاهدين وسيد العلماء الربانيين وبقية السلف وملك البساطة التي لاتكلف فيها. أحبه الناس فبادلهم حبا بحب ومودة بمودة وقربا بقرب.

كم سمعنا صوته إذا اجتاحت المسلمين جائحة، كم سمعنا صوته يوم أن خفتت أصوات، لم تكن حسابات ابن جبرين لتنطبق على كثير من أهل الدنيا فكانت جراحاته تتكلم قبل لسانه وكانت مواجعه تئن قبل يراعه، كان ينطق بالحق ويجاهر به ويتقطع ألما على إخوته في طول الدنيا وعرضها، لايجامل في الحق ولا يداهن. ترك الجامعة وهو الجامعة وترك الافتاء وهو الإفتاء. لم يقدم اعتذارا ولم يدخل على ولي الأمر ولم يبرر مواقفه بل مضى في طريقه وعينه ترمق شيئا لانراه وقلبه يحثه على السير وهمته تفوق الهمم وعزيمته تناطح الجبال.

كانت نفسه تشرئب للنعيم المقيم، النعيم السرمدي الأبدي، النعيم الذي لاينفد والصحبة التي لاتمل والكوثر ورؤية الله عز وجل، فتصرمت آماله من الدنيا وقطع حبال ودها وسار مؤمنا موقنا واثقا عازما متطلعا متحفزا مشتاقا فكان في جيل الكبار، كان عملاقا وسط غابة من الأقزام ينظر إلى تهافت الناس على الدنيا فيعجب من هفواتهم وسقطاتهم وعثراتهم. هذا العملاق السلفي الفذ ماانتصر لنفسه قط إلا أن تنتهك محارم الله، كان يذكر مشائخه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة فتدمع عينه ويبكي قلبه فيترحم عليهم ويذكر شمائلهم ويدعو لهم. كان ابن جبرين بسيطا يبهرك في بساطته وسماحته فهو السماحة والفضيلة والطهارة والنبل، كان لايمتنع من دعوة آحاد الناس، مضى سحابة عمره معلما وموجها وواعظا ومذكرا حتى ثنى الرجال عنده الركب وتزاحمت العقول لتهل من نبعه الفياض المتدفق.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير