تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإنَّ الله تعالى خلق الإنسان لمهمة جليلة وغاية نبيلة، وهي عبادته سبحانه وتعالى ليَعمُر الكونُ بتوحيده جلَّ في عُلاه، قال عزَّ مِن قائل: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، وللاستخلاف في الأرض حتى ينشُر دعوته، ويأتي إليه طَوَاعية باختياره وسعيه وكسبه، ليتحقق ما عَلِمه سبحانه في عالم الغيب واقعًا في عالم الشَّهَادة، ولينظر سبحانه -وهو أعلم- من يأتيه مُحبًّا راغبًا راهبًا، ممن ينقلب على عقبيه فيخسر الدنيا والآخرة.

ومع أنَّ الله جلَّى لنا هذا الأمر وبيَّنه أيَّما بيانٍ؛ إلا أن الكثير في عَمَاية عنه، ما بين مكذِّب به، وما بين مخذول، قعَدَت به نفسُه الخبيثة وأغواه شيطانه الرجيم؛ واستحقوا أن يَصِفَهم الله بقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وبقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].

لكنَّ هناك صِنفًا مُوفَّقًا مُعانًا مؤيدًا مُسددًا، رَضِي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه نبيًّا ورسولًا، أحبَّ الله تعالى، وغَلَبت محبتُه لله كلَّ محبة من شأنها أن تُقعده، أو تؤخِّره عن لقاء الله، ورفع شعار {وَعَجِلتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].

فأصلحَ لله ظاهرَه وأنابَ إلى الله واستغاث به أن يهدي باطنه، وأن يكون باطنُه خيرًا من ظاهره، وأمعن النظر في الغايةِ مِن خلقه، فعلم يقينًا أنه في دار اختبار، والسعيدُ من وعِظ بغيره، وأنها كما قال الإمام أحمد بن حنبل العَلَم الأشم رحمه الله: «إنما هي أيام قلائل، لو كُشِف للعبد عما قد حُجِب عنه لعَرَف ما هو عليه من خير أو شر؛ صبرٌ قليل، وثوابٌ طويل، إنما هذه فتنة» [1].

فهانت عليه نفسُه أن يبذلها لله رخيصةً، وتمنَّى أن لو كانت له مائةُ نفس ليبذلها لحبيبه ومولاه وخالقه، ومَن بيده ملكوتُ كل شيء، ومن يملك إسعادَه وتزكيته؛ لعلمه بعظم الجزاء المترتب على هذه البيعة المباركة والصفقة الميمونة: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة: 111].

ولم يجدوا حاديًا على هذا الطريق إلا سيد الهداة وإمام الدعاة وقائد الغُرِّ المَيَامين، فعقدوا العزمَ على العَضِّ على ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم إذ لا طريق موصلة إلى رضوان الله وجنته إلا طريقه، والسير على نهجه، وتقفِّي أثره حَذْو القُذَّة بالقذة [2]، فعكفوا على حِفظ سُنَّته والتفقه في شريعته، حتى يُقبل منهم السعي ويَحْظوا بالقبول؛ لأن الجليلَ يقول: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعْمَل عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

فلما تفقَّهوا حملَهم العلمُ الهادي إلى التزوُّد منه؛ إذ عبوديةُ الله لا يُمكن أن تُحصَّل إلَّا بالعلمِ الذي جاء به المعصومُ - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يأمره ربُّه أن يستزيد من شيء إلا من العلم؛ فقال سبحانه: {وَقُل رََّبِّ زِدْنِي عِلمًا} [طه: 114].

وفَطِنوا إلى أنَّ الله رفَعَ درجات أهل العلم حيث فضَّلَهم وأعْلَى قدْرَهم؛ فقال سبحانه: {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وأنَّ مَن كان بالله أعلمَ كان له أتقى، ولا يَعصِيه إلَّا مَن جهل قدره جَلَّ في عُلاه؛ لذلك قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير