تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فرفعهم العلم عن الدَّنايا، وسَمَت أنفسُهم، ووجدوا الرَّاحة واللذة التي يراها غيرهم عَنَتًا وعذابًا- سعادةً غامرة يكادُ القلبُ يرقص فيها طَرَبًا، فلما انتَشَت نفوسُهم نادى مناديهم: «إنَّه لتمرُّ بالقلب أوقاتٌ يرقصُ فيها طَرَبًا، فأقول: إنْ كان أهل الجنة في مثل هذا إنَّهم لفي عيش طيب» [3].

ولما نظروا حَوَاليهم واستشعروا فَدَاحة غفلة الناس رفعوا أصواتهم باكين من هَلَكَ، مُنذرين مَن بَقِي: «مَسَاكينُ أهلُ الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها: وهو معرفة الله».

وهذا فضلُ الله يؤتيه من يشاء؛ فليس العجب ممن هلك كيف هلك! إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟!

فلله دَرُّهم! انظر إليهم وهم ينتقلون من حَلقة إلى حلقة، ومن درس إلى درس؟!

ثم تعجَّب مِن عُكوفهم على كتبهم، ولسان حالهم يقول:

أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ

واندهش مِن سهرهم لحل مُعضلة مُشكِلة؛ إذ جُل همهم وأسمى أمانيهم أن يخرج بحثُهم بخير نتاج، وأن يبارك اللهُ سعيَهم، وأن يُنير بصائرهم لتصل إلى الحق، ولهجوا بدعائه سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

ولَكَم عَشِقوا القلم والقِرْطاس إذْ لا معنًى لحياتهم بدونهما، لذلك لما مُنِع شيخُ الإسلام- رحمه الله- من أدوات الكتابة أحس أنه لم يعد هناك معنى لحياته، ففاضت روحه لمولاه.

ويا لله لمحبتهم لخلوتهم حين يَخْلون بحبيبهم، إذ ثمرةُ العلم العمل، ولا خيرَ في علم لا يتبعه عملٌ، فقد هتفَ العلمُ بالعمل فإن تبِعه وإلا ارتحل.

فهذا شأنهم، وذاك ديدنهم، وتلك حالهم، فهم في وادٍ والناس في واد.

يعجب من لم يذق طعم الإيمان ومن لم يُحسَّ بلذة المدارسة ومن لم تَكَلَّ عينُه بالسهر لمرضاة الله- مِن أحوالهم؛ فيقول: هؤلاء دفنوا أنفسهم أحياء! هؤلاء لم يذوقوا طعم الحياة!

وهيهات! فهم وحدهم الأحياء، من مات منهم بما ورَّث من علوم وآثار واضحات، ومن بقي منهم لخدمته لدين رب الأرض والسموات، نسأل الله للجميع الثبات.

فمن مات منهم نسأل الله له أن يبلغه منازل الشهداء، ومن حَيَّ منهم نستغيث به سبحانه أن يحفظه بحفظه الذي لا يُرَام، وأن يكلأه بعينه التي لا تنام.

فهذه الحياة الحقيقية التي قال المولى سبحانه عنها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال جل في علاه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123].

إذ لا معنى لحياة يعيشها الإنسان - المُكرَّم - أشبه ما يكون بالحيوان يأكل ويشرب وينام وينكح، ولا يخلِّف أثرًا يُذكر، ولا يورِّث شيئًا ينفع، فحياتُه ومماته سواءٌ.

لذا كان موتُ العلماء العاملين الربانيين خسارة عظيمة للأمة، وثُلمة لا تُسدُّ إلا بعالم مثله، وإلا وقع ما حذَّر المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته فقال: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ العِلمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» [4].

فبتوافر العلماء الربانيين صلاح الدين والدنيا، وبفقدهم فسادهما، وقد قال الزهري - رحمه الله تعالى -: «كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ، وَالعِلمُ يُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا، فَنَعْشُ العِلمِ ثَبَاتُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَفِي ذَهَابِ العِلمِ ذَهَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ» [5].

وبفسادهم خسرانهم في الأولى والآخرة، وضياع من وراءهم، ولله در القائل:

يا عُلماءَ الدِّين يا مِلحَ البلد مَن يُصلِحُ المِلحَ إذا المِلحُ فَسَدَ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير