وكيف لا تعلم الأمة ما يترتب على فقدها لعلمائها، وقد كان الناس ولا يزالون يبكون العلماء الربانيين؛ إذ لما مات زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: «مات اليوم حبر هذه الأمة، ولعل الله يجعل في ابن عباس منه خلفًا» [12].
فكان ابن عباس -رضي الله عنهما - نعم الخَلَف ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [13].
ولما مات ابن عباس - رضي الله عنهما - صفَّق جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- بإحدى يديه على الأخرى وقال: «مات أعلم الناس وأحلم الناس، ولقد أصيبت به هذه الأمةُ مصيبةً لا تُرتَق» [14].
وقد قال عطاء في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}: نقصها: هو «ذهاب فقهائها وخيار أهلها» [15].
كان هذا هو فهم أئمتنا المباركين من سلف هذه الأمة المرحومة.
أما بعدُ:
ففي الآونة الأخيرة توالت على الأمة نكبات مفجعة مُؤرقة؛ إذ مُنيت بفقد جِلَّة من علمائها الربانيين -نحسبهم كذلك والله حسيبهم- كانوا قد أخذوا على عاتقهم تجديد أمر هذا الدين العظيم، ونفع الله تعالى بهم، وما ضعفوا وما وهنوا وما استكانوا في هذا السبيل المليء بالمعوِّقات، ففتح الله بهم البلاد وقلوب العباد، ونشر على أيديهم الخير بعدما عمَّ البلاءُ وطَمَّ، فأخلصوا لدينهم -نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله- وجرَّدوا النصح لأمتهم.
ومن هؤلاء:
فضيلة الشيخ العلامة الدكتور/ عبد الله بن جبرين - رحمه الله -، الذي أعده ثالث الأئمة الأعلام مع سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله، وسماحة شيخنا ابن عثيمين رحمه الله، في الفقه والإفتاء، والصبر العجيب على التدريس والطلبة، والبذل المنقطع النظير للدعوة، والعمل الدءوب على رفعة الأمة، والنهوض بها؛ لتتبوأ مكانتها اللائقة بها، ونشر العلم، ناهيك عن التأله والزهد، ودماثة الأخلاق التي لمسها القاصي والداني.
كان - رحمه الله - من كبار المُفتين في العصر الحديث، وهو عضو إفتاء سابق بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، وقد خلَّف ما يزيد على ستين مؤلفًا، من أهمها في مجال الفتوى: «فتاوى الزكاة»، و «فتاوى رمضانية»، و «فتاوى في التوحيد»، و «فتاوى في الطهارة»، و «الأجوبة الفقهية على الأسئلة التعليمية التربوية»، و «الفتاوى الجبرينية»، و «الفتاوى النسائية».
وقد كرَّس كلَّ وقته للعلم والدروس والمحاضرات، ولم يفوِّت منها شيئًا، وكان يلقي محاضراته ودروسه ولم تنقطع إلا في أثناء مرضه، وفي فصل الصيف كان يقوم برحلة داخل المملكة ينطلق فيها من الرياض إلى مكة ثم إلى الطائف وجُدة والجنوب ثم يعود إلى الرياض مع مرافقيه، ثم إلى شمال المملكة وإلى المنطقة الشرقية والقصيم، وهي رحلات كانت كلها لإلقاء الدروس والمحاضرات.
ولم يكن لمثلي أن يتحدث عن هذا الجبل - رحمه الله -، ولكني أرفع بذلك خسيستي، وما أستأهل - والله - أن أغسل عن قدميه، ولا أن أحمل له نعليه، ولا أقول هذا تواضعًا، وحسبي أن أتمثل بقول إمامنا الشافعي - رحمه الله -:
أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْتُ مِنْهُمْ لَعَلِّي أَنْ أَنَالَ بِهِمْ شَفَاعَهْ
وَأَكْرَهُ مَنْ تِجَارَتُهُ المَعَاصِي وَلَوْ كُنَّا سَوَاءً فِي البِضَاعَهْ
ويكفي عظم المصيبة، أحسن الله عزاءنا جميعًا في مُصابنا الجَلل، وأخلف الله علينا أمثال شيخنا المبارك - رحمه الله - وعلمائنا الأفاضل.
ولما كان هذا هو قدر الله السابق، فلا نملك حياله إلا أن نتجمل بالصبر، وأن نتحلى بحُسن العزاء، حتى نحظى بموعود ربنا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
اللهُمَّ اغْفِرْ لشَيخِنا، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي المَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ.
وهكذا تكون عاقبة المحسنين الطيبين والعلماء العاملين الربانيين -نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله- يجعل الله لهم لسان صدق في الناس.
وصدقَ الإمام أحمد - رضي الله عنه – حين قال: «قولوا لأهل البدع، بيننا وبينكم الجنائز».
فكانت جنازة شيخنا - بفضل الله - من عاجل بُشرى المؤمن، وقذى في أعين المبتدعين الحاقدين.
¥