تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكان شيخنا – رحمه الله تعالى – حازماً في القول والعمل، فكان لا يتكلم إلا في خير وفيما يعنيه ويعني مصلحة الطلاب والجامعة، ولم أره قط يخوض في حديث الناس، أو فيما لا يعنيه، فإذا تكلم، تكلم بكلام مقصود بحذافيره، ليس فيه حشو ولا هراء، يهدف به إلى مرماه، ويصميه ولا يخطئه غالباً. ومن هنا كل من جلس إليه وتحدث معه، سواء كان من الطلاب أو من زملائه الأساتذة، كان يزن كل كلمة من كلامه بميزان الصحة والخطأ، ويضعها على محك العقل، ثم ينطق بها منتبها لمسارها ووجهتها، فما كان أحد يجرؤ في مجلسه أن يرسل كلامه على عواهنه. وهكذا تربى الطلاب العقلاء وحتى الأساتذة على الاتزان في الكلام، والتزام الوقار في المجلس.

وأما عمله فكان مترتباً بلوازمه، منسقاً بأوقاته، منظماً بآلياته، فلم أره أبداً على غير نسق ولا ترتيب، لا في مكتبه، ولا في قاعة الدرس، ولا في المسجد، إذا دخلت عليه مكتبه، رأيت كل شيء فيه مرتباً آخذاً بمكانه، مع أنه كان كثير الاشتغال بالقراءة والكتابة، والمقابلة مع الزوار.

وكان مثالا في الالتزام بالمواعيد، فما كان يخلفها، فإن كان معه ميعاد لأحد من الطلاب أو من الأساتذة، لم يكن يسعه أن يخلفه. وأما الصلاة، فكان يصليها بالجماعة، ولا تكاد تفوته تكبيرة الإحرام، حتى في صلاة الفجر وفي الشتاء، وهيئته في الصلاة بما فيها من الوقار والاعتدال والخشوع، وإتمام أركانها وواجباتها لم أر مثله فيها لا في الهند ولا في المملكة العربية السعودية، فإذا قام للصلاة، كأنه أسطوانة ضاربة الجذور في الأرض، لا تصدر منه حركة سوى حركات الصلاة، وكان يحب أن يكون كل مصلٍ على تلك الهيئة، فإذا رأى أحداً ينشغل بالأنف أو باللحية أو بالطاقية، ويقوم بتصرف مخل بالصلاة، جلس معه بعد الانصراف من الصلاة، ونبَّهه على خطأه، وأنبه إذا احتاج إلى التأنيب. ومن هنا كان الطلاب يجتبون يمين المسجد التي يصلي فيها شيخنا والأساتذة الآخرون، حتى لا يتعرضوا لعتابه إذا لعبوا في الصلاة، وكنت ممن يلهو عن الصلاة، وينشغل بالطاقية وبالتصرفات المخلة بالصلاة، فكنت أجتنب تلك الجهة أشد الاجتناب، فيوما من الأيام دخلت المسجد، وكانت صلاة العشاء (وكنت طالباً في السنة الثانية من الثانوية عام 1993م)، فما وجدت مكانا في الصف عن يسار المسجد، وحاولت أن يفسح لي، ولكن فشلت، فاضطررت إلى التوجه نحو يمين المسجد، فصوبت النظر على المصلين في تلك الجهة، لأنظر هل فيهم الدكتور مقتدى حسن الأزهري أم لا؟ فلما تأكدت من عدم وجوده فيهم، دخلت الصف، وبدأت أصلي، لكن لاهيا عن الصلاة بالطاقية وبالحركات التي تعودت عليها وأنا لا أشعر بها، إذ جاء شيخنا وقام خلفي مباشرة، ولاحظ جميع التصرفات التي انشغلت بها في أثناء الصلاة، فلما سلمت، نظرت خلفي، إذا بالدكتور الأزهري يقضي ما فاته من الصلاة، فقلت في نفسي: لا نجاة لي اليوم، وبالفعل لما سلّم، سألني عدة أسئلة، من أين أتيت، ولم أتيت؟، وفي أي صف تدرس؟ هل أنت ممن يحب اللهو واللعب أو ممن يحب العلم والدراسة؟ أسئلة متتالية جعلتني في موقف حرج جداً، ولم يكتف بتلك فحسب، وإنما استدعاني في اليوم التالي بعد العصر، وكان قد دعا الشيخ يونس أيضاً، ليقرر مصيري، فسألني عدة أسئلة محرجة، ولما تبين له من خلال إجاباتي أني من الطلاب المجدين في طلب العلم ولست من اللاهين، عفا عني جريرتي، ووافق على مواصلة الدارسة بالجامعة، بشرط أن لا أعود لمثل تلك التصرفات في الصلاة. وبذلك ذهبت عني – ولله الحمد - تلك العادة السيئة، ولم أعد لمثلها.

وهكذا كانت تربيته لأبنائه الطلاب، تتجلى فيها معاني الأبوة، والحرص على الإصلاح، وتعضدها هموم المربي تجاه من تحت يده، وآثار هذه التربية لم تقتصر على الطلاب فقط، وإنما تجاوزتهم إلى زملائه الأساتذة أيضاً، فكانوا جميعا لا يجدون أنفسهم إلا مدفوعين إلى الالتزام بالوقار والسكنية في المجالس وفي الصلوات، وترك الفضوليات في القول والعمل.

وكان – رحمه الله تعالى – يحب الإتقان والدقة في العمل، ويكره الهشاشة والضحالة فيه، فالمقالات التي كان يكتبها تباعاً، يدفعها إلى صاحب المطبعة أو من يقوم بالطباعة على الكمبيوتر متقنة دقيقة في جميع جوانبها، حتى الالتزام بعلامات الترقيم التي يفرط فيها كثير من المؤلفين. وعلى هذا المنهج كان يؤسس أبناءه الطلاب في الفصول الدراسية وفي الاجتماعات العامة، وكان يرحب بعمل علمي قام به أحد من الطلاب متقنا دقيقا، وإلا يحيله على من يصلحه من زملائه الأساتذة.

وهكذا كانت حياته – رحمه الله تعالى – مليئة من جميع أطرافها وأجزائها بالجد والحزم فحسب، ولم يجد الهزل واللهو فيها منفذا، يتخذان منه طريقهما إليها، فما عرفت سوى الجد والحزم، الجد في مكتب العمل، والجد في المسجد، والجد في الفصول الدراسية، والجد في الطريق، والجد في المجالس، والجد – أظن- في البيت. فعاش – رحمه الله تعالى – حياة ذات همم وغايات نبيلة، فيها عبر ودروس لطلاب العلم والأساتذة المربين. اللهم تقبل حسناته، وتجاوز عن سيئاته، وأدخله فسيح جناتك، واجعلنا له خير خلف. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليما كثيراً.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير