وطول عكوفه على الكتاب أورثه داءً جعلنا نعاني منه - ولا نزال - فقد خاصم الأضواء، وآثر البعد عن الفلاشات، وكره لُبْسِ ثياب الزور التي يتجمل بها كثيرون ممن لا يدركون غباره، ولا يحلمون بعشر ما عنده .. حتي إنني رجوته - مع ظني أنه يحبني، ويكره أن يردني - مرات ومرات ومرات، أن يشارك في برنامج تلفزيوني، أو لقاء صحفي، أو حديث للإذاعة، فكان يمتنع برفقه المعهود؛ حتي لا يدع لي خيارًا ولا فرصة لمزيد من الرجاء والتمني .. ويجمّله في ذلك عفة غير عادية عن الطلب، أو الاستشراف، أو حتي التفكير في شيء من اللعاعات العابرة ..
وأذكر حين كنت في إسلام ويب أن فضيلته استحق مبلغًا عن كونه مستشارًا فكريًّا للشبكة، وطلبت منه رقم حسابه في البنك .. وحاولت جهدي أن أصل إليه فأبي .. حتي اضطررت أن أتصل بأحد الأحباب في المصرف لأعرف رقم حسابه، ثم لأودع المبلغ باسمه .. كل ذلك وهو مستحٍ خجِل، يؤنبني من طرف خفي، ويلومني، وأنا باللوم جدير؛ لأني كان يجب أن أتصرف دون أن يحس هو .. لكنها الغفلة ..
ولقد عرفته رحمه الله حليما ضابطا نفسه .. شهدت أحد ال ... يتطاول عليه - بشكل مفاجئ - ويسيء إساءات بالغة، والشيخ الحليم بين الاندهاش والاستغفار والحلم .. وما حرك الموقف إلا انفعال من بعض الموجودين، غاروا علي الشيخ، وحموا له ..
ورغم أعباء العمل البحثي، ورغم الاستغراق الشديد فيما يعشق، فلقد كان عليه رحمات الله ورضوانه متابعا عجيبا لما يدور في الدنيا: يسمع، ويري، ويحلل، ويستشرف، ويناقش! وإذا حصل وسرقنا منه بعض وقته الثمين فإنه يستقبلنا بالبشاشة المعهودة، كأنما هو متفرغ لنا، لا يشغله عنا شيء؛ ويبقي المجلس عامرًا بالأفكار والذكريات والمعلومات والملاحظات والتوجيهات الأبوية التربوية الدقيقة، كل ذلك بابتسامة جميلة ودود، وأبوة حانية صادقة ..
وكان جمعني الله به مع حبيبه المصطفى بكاء، سريع الدمعة، محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أسرع ما تنحدر دموعه إذا ذكر سيدنا رسول الله بأبي هو وأمي وبني وأهلي أجمعين كما كان يقول دائما، شوقا وحبا ورقة,,
لكم تعلمنا منك أستاذي شفاك الله، وعافاك:
تعلمنا من أستاذنا الديب إجلال العلماء، وتقديم العذر، وترك الخلاف، واحترام الاختلاف الراشد.
تعلمنا منه تقدير جهد الناس، وعدم التفريط في الوقت.
تعلمنا إعادة القراءة، وإمعان النظر، وتأمل ما وراء الأشياء.
تعلمنا حب التاريخ، ولزوم النظر فيه، واكتشافه، ونفض بعض المسلمات الناجمة عن محاولات جعله يساريًّا، أو ملونًا بلون غير الحقيقة.
تعلمنا عدم التسليم بما تقوله الميكروفونات، ولا الإذاعات ووسائل الإعلام، لأنها دائما تتحدث بصوت مالك السلطة لا صاحب الحقيقة، وأن هذه الحقيقة كثيرًا ما تطمر تحت أثقال وأوزار من التعمية والإيهام والليّ والمخادعة، وتغيير الجلود والأشكال ..
تعلمنا اليسر وطلاقة الوجه والتأدب في العبارة، حتى مع الصغير والمخالف ..
تعلمنا الترفع وإكرام النفس والنأي عن السفاسف ..
تعلمنا أهمية العلم، والوقوف أمام مسألة أو موضوع ساعات بل أيامًا؛ لأن العلم يستحق ..
تعلمنا أن الكبير كبير في همه، كبير في همته، كبير في مقصده، كبير في عطائه، كبير في سلوكه ..
تعلمنا أن ساعة نجلسها بين يدي أستاذ يضيف أو يقوّم أو يوجه خير من أسابيع نقضيها في الراحة، وأن العمر لا يقاس بالساعات والأيام، وإنما بالعطاء والعطاء والعطاء ..
تعلمنا أن الذي يحترم نفسه يحترمه الناس، وأن الذي يحب الله تعالي يضع الله تعالي له الحب في الأرض ..
تعلمنا أن البسمة دواء، والبشاشة علاج، والكلمة الطيبة دواء، وطهارة القلب إكسير ..
هل أقول أكثر؟
أسأل الله يا سيدي الشيح عبد العظيم الديب - في هذه الأيام المباركة - أن يرحمك ويتوب عليك، وأن يجمعك بجدك وحبيبك المصطى عليه السلام/ وأن يأجرنا الأمة في مصيبتها، ويخلنها خيرا منك، وأن يأجرني في مصيبتي فيك، ويخلفني في الدنيا خيرا، وفي الآخرة لقياك على حوض الحبيب نشرب كلانا شربة لا نظمأ بعدها أبدا، ثم يكون منتهانا الفردوس الأعلى من غير سابقة حساب ولا عذاب .. اللهم آمين ..
وأسألك بالله قارئي الكريم، أن تخص أستاذي وأنا وأنت معه بدعوة بظهر الغيب، فإن دعاءك أرجى بالقبول من دعائي .. غفر الله لنا أجمعين ..
http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=23187