عاد من الخارج، والعود أحمد، وفي فترة إيقاف القتال، وقبل استرجاع السيادة، اجتمعت طائفة من قدماء رجال الجمعية ممن بقوا على قيد الحياة، منهم المرحوم الشيخ الشبوكي، والمرحوم الشيخ علي المغربي، والمرحوم الشيخ محمد الصالح رمضان وآخرين ... للبحث في موضوع عودة نشاط جمعية العلماء، وقرروا الذهاب إلى تلمسان للقاء الرئيس أحمد بن بلّة، وطلبوا إليه إعادة تأسيس الجمعية الثقافية (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) التي لا تتدخّل في الشؤون السياسية، فرفض، لأن النظام الجديد الذي سيقوم لا يعترف إلاّ بالحزب الواحد!. فعاد الوفد إلى الجزائر بخفي حنين حسب تعبير الشيخ ..
وفي الاستقلال، كان من الأعضاء الذين رشحتهم الولاية الأولى كنائب في المجلس الوطني التأسيسي، حيث التقى زمرة فاضلة من قدامى جيش وجبهة التحرير، رجالا ونساء، وترأس "لجنة التربية والثقافة"، حيث تعرف على بعض المجاهدات، منهن السيدة: مريم بلميهوب زرداني، والسيدة زهرة ظريف بيطاط، وكثيراتٍ منهن .. وكانت خاتمة هذه الفترة النيابية أن سُجن في الصحراء الكبرى، رفقة زملاء آخرين، رغم الحصانة البرلمانية التي يتمتع بها النائب، وعندما سأل عنه أحدُ زملائه النواب، ألحقوه به، ووضعوهما في زنزانة واحدة.
في وزارة التربية الوطنية:
واستمرت الأحداث ماضية، وعاد مرة ثانية إلى الطبشور والسبورة في مدرسة المعلمين ببوزريعة، تحت إدارة المناضل السياسي الأستاذ عبد الحميد مهري أمدّ الله في عُمره، إلى أن تفضل بدعوته إلى وزارة التربية الوطنية معالي الوزير الدكتورُ أحمد طالب الإبراهيمي، فكلّفه بإدارة الشؤون الثقافية بالوزارة، وفي عهده تمّ تعريب الجزء الخاص بالعلوم الإسلامية من فهرس "فانيان" لمخطوطات المكتبة الوطنية، حين أسند المهمة لأديبين من أدباء الجزائر، هما: الشيخ جلولي بدوي، والأستاذ رابح بونار -عليهما رحمة الله- لكن عملهما الجليل حِيكت له مؤامرة بنهار، فلم ير النور .. وكانت المخطوطات سببا في وفاة الأستاذ رابح بونار.
سعادة السفير:
وباقتراح من الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي على المجاهد بومدين رئيس مجلس الثورة، تمَّ ترشيح الشيخ إبراهيم مزهودي للسفارة بالقاهرة عام 1971، فمكث بها إلى نهاية العام 1974. وقام بالمهمة على أكمل وجه، وبنزاهة، وإليه يعود الفضل في إعادة الدفء -بعد فتور- إلى العلاقات الجزائرية المصرية .. فكانت أول زيارة لرئيس وزرائها ... ثم زيارة رئيس الجمهورية بعد ذلك للجزائر، وأثناء الزيارة، اختطف هادم اللذات ابنته الشابة "هدى" -عليها رحمة الله- فاتصلتُ به: ماذا نفعل؟ أجاب: هيئوا لها قبرًا في القاهرة، فكلها تربة إسلام .. وكتم أحزانه، وأكمل المهمة، وعاد ليقرأ فاتحة الكتاب على قبرها حيث دُفنت في مقبرة أسرة كريمة، في حَيِّ الدرَّاسة بالقرب من الأزهر الشريف والحسين -رضوان الله عليه– ونامت في قبر واحد إلى جانب أختها "حنان" ابنة الدكتور عبد الله ركيبي الذي كان يحضِّر رسالة الدكتوراه في القاهرة، وقد اغتالها عسكري أرعن يقود شاحنة عسكرية، لا في ضفة القناة ولكن تحت سفح هرم "خوفو" ونحسبهما من الحور العين، فقد اختارهما الله إلى جواره ولمَّا تبلغا سِنَّ التكليف ... أو ممن خصَّهن بقوله:} يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ {.
تكريمه لطلبة العلم والعلماء:
وأثناء قيامه بمهام السفارة في القاهرة، استنَّ سنة حميدة، ألا وهي تكريم طلبة العِلم من الجزائريين الذين يتحصلون على الماجستير أو الدكتوراه، ويدعو لحفل التكريم الدكاترة الذين أشرفوا على الرسالة، أو ناقشوها .. كما كان يكرّم علماء المغرب العربي الوافدين على مصر في دورات مجمع اللغة العربية .. وقد حضرتُ تكريم العلاَّمة الحبيب بالخوجة أحد علماء الزيتونة الأفاضل، وكان التكريم في أضخم فنادق القاهرة، وهي لفتةٌ عظيمة، وتقدير للعلم من ديبلوماسي عالم، كان ذات يوم من طلاب جامع الزيتونة العامر .. كما كان يكرم وفود العلماء الذين يحضرون ملتقيات الفكر الإسلامي قبل سفرهم إلى الجزائر.
مُساهمته في الدعوة:
ومنذ عودته من السفارة عن طريق البر بسيارته وسائقه، والتخلِّي عن ركوب الطائرة ... لزم بيته، ونَذَرَ نفسه للدعوة، والوعظ والإرشاد، رفقة الشيخ عبد اللطيف سلطاني في مسجد القبة، ورفقة الشيخ أحمد حماني في مسجد الرحمة، ورفقة الشيخ علي المغربي في مسجد ابن باديس -عليهم جميعا رضوان الله ورحماته- وقد وهب سيارته المرسيدس إلى مسجد ابن باديس لإتمام بنائه، وعاد إلى "الكوكسينال 1200" العتيقة، يتنقل بها وأسرته ما بين الجزائر، والقرية.
مسجد القرية:
ولن يكتمل الحديث عن الفرع إلا إذا أنهيناه بالحديث عن الأصل، عن عميد الأسرة الحاج عبد الله مزهودي، الريفي، التاجر البسيط، الذي ربّى فأحسن التربية، وقد نزح من الريف إلى قرية الحمامات التي كانت في قبضة "الكولون" فاشترى بها مسكنا يقع قُبالة الكنيسة، وآلمه ذلك، فاقتطع جزءا من المنزل جعل منه أوّل مصلى للوافدين على القرية يوم سُوقها، أو لأهلها على قلّتهم، وبمرور الزمن تحوّل هذا المصلّى إلى مسجد جامع، يتسع لجميع المؤمنين مهما تزايد عددهم، حين ضمّ إليه بيت الأسرة، ولم يحتفظ لنفسه إلاّ بما يتسع له ولشريكة ما تبقّى من محطّات الرحلة، ومنه يدخل إلى قاعة الصلاة، ليؤديها في وقتها مع الجماعة .. وهو الآن يملأ أوقاته بقراءة القرآن والمطالعة، رغم ضعف البصر، والحمد لله على جلاء البصيرة ... فقد زَهد في كل شيء إلاّ في العلم.
هذا؛ وهناك محطات أخرى كثيرة في فعل الخيرات والإحسان إلى فقراء القرية، أتركها من باب لا تعرف يده اليسرى ما تنفق يده اليمنى، جزاه الله عنهم كلَّ خير، وجعلها في ميزان حسناته.
وقد توفاه الله جل وعلى بعد مرض عظال رحمه الله رحمة واسعة
¥