في إحدى الليالي زاره بعد العشاء رجل كفيف على هيئته الوقار مع مرافق له وكان الشيخ من عادته ألا يستقبل أحداً بعد صلاة العشاء لماذا؟ لأنه يبدأ عمله في مكتب البيت بين كتابة ومراجعة وبين قراءة في كتب العلم وبين اتصالات هاتفية ففي تلك الليلة أصر الرجل على لقاء الشيخ فأذن له الشيخ وإذا به يقول بأنه يبني وقد نقصه المال ويحتاج إلى قرض مدة سنة فرد الشيخ رحمه الله: ما ذهبتم إلى أحد يقرضكم قالوا: لا ما ذهبنا ولو ذهبنا فلن يقرضنا أحد ولجأنا إلى الله ثم إليك لتكلم أحداً ليقرضنا فتأمل الشيخ ثم قال عندي مبلغ لمشروع خيري من المحسنين ثم أقرضهم إياه مدة سنة. فقاموا وهم يدعون له لأنه فرج عنهم.
سماحة الوالد يتكلم باللغة العربية الفصحى ويكتب بها ويكره اللحن ويصحح أخطاء القراء حين يسمعهم ويعد صاحب طريقة في الكتابة فهو يعرف كيف يخاطب مستمعه بلغة عربية سهلة ميسرة ليس فيها إغراب ولا استعجام ذلك لأنه من جيل السيد محب الدين الخطيب ومن جيل السيد أبي الحسن الندوي والدكتور تقي الدين الهلالي وإن كان الهلالي أكبر منهم سناً. (1)
إن أسلوب سماحة الوالد على خلاف أسلوب الفقهاء الذي عرف بالجفاف وعلى خلاف أسلوب بعض حملة الشهادات العليا المعاصرين الذين لا يعرفون مراعاة مقتضى الحال ولا يعرفون بأنَّ لكل مقام مقالاً حتى أنَّ بعضهم ربما استعان بمعجم لغوي حين يريد مخاطبة الناس في حفل أو اجتماع فتجد أسلوبه يعلو وينحط فلا هو يرقى إلى مستوى فرسان الكلام ولا هو بالذي يفهمه العامة وهذا كله راجع إلى الإعجاب بالنفس أمَّا سماحة الوالد فإنَّ كتابته وكلامه يدخل قلوب الخاصة والعامة دون استئذان فهو من السهل الممتنع لقد أوتي البلاغة فهو إذا كتب بعد ذكر المخاطب والدعاء له بما يناسبه فيقول: لشخص سلمه الله ولآخر وفقه الله. بعد ذلك يملي ((وبعد)).
فهو لا يكتب: أمَّا بعد وهذا راجع إلى إحساس الشيخ البلاغي المرهف لأنَّ استعمال: أمَّا بعد فهي دائماً تمثل مدخلاً قوياً لبراعة استهلال الخطباء فإنك حين تكون خطيباً وتقول: أمَّا بعد فإنَّ الناس كلهم سوف ينتبهون لك الساهي واللاهي والنائم والمنصرف يتخوفون من الذي سيأتي بعد أمَّا بعد:
أمَّا: كتابة وبعد فهي بلا شك دون أمَّا فهي تعطي ارتخاء وربما أكثر تقبل وهذا لا يعرفه إلاَّ من رزق حساً بلاغياً وعلى العموم يجوز استعمال هذا وذاك ولكن بعض من اغتر بشهادته عاب على سماحة الشيخ تركه ((أمَّا)) مع أنَّ علماء اللغة أجازوا ذلك وهذا الإمام الشيخ محمد بن أحمد الشهير بالحطاب رحمه الله في مقدمة كتابه ((متممة الآجرومية)) وقال في ص10: وبعد فهذه مقدمة في علم العربية
قال الشارح الإمام محمد بن أحمد بن عبدالباري الأهدل في كتابه الكواكب الدرية على متممة الآجرومية.
في نفس الصفحة قال: ((وبعد)) هي كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب في الكلام إلى أسلوب آخر والواو في أولها نائبة عن ((أمَّا)) الشرطية فلذا لزمت الفاء بعدها الخ الناشر مكتبة الإمام الوادعي صنعاء.
إذاً ما يكتبه سماحة الوالد عن دراية وعن علم بعيداً عن المتكلفين المتقعرين ممن يغتر بحرف الدال ممن لا يساوي قطرة من بحر علم شيخنا رحمه الله.
بقي سؤال وهو ما هو السر في محبة الناس لسماحة الشيخ ربما قال قائل هناك من هو أفقه منه؟ فالإجابة رزقه الله القبول ومحبة الناس حتى الذين يخالفونه هو أن الشيخ لم يعر الدنيا اهتمامه ولا فكر في المال ولا في جمعه لم يكن متهالكاً على الدنيا ولم يكن من علماء الدنيا بل يعد من علماء الآخرة لم تهمه العمارات ولا السيارات ولا الأرصدة وإذا جاءت إلى الشيخ رحمه الله فإنما هو ممر لها حيث إنه الخازن الأمين الذي يوصل المال إلى مستحقيه بل حتى مرتبه فهو ينفقه فهناك أسر في داخل المملكة وخارجها تعيش على ما يصلها من راتب سماحته رحمه الله.
فصان علمه وصان يده وأعز نفسه فأعزه الله ولسان حاله لسان القاضي عبدالعزيز الجرجاني:
ولو أنَّ أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظموه في النفوس لعظما
ولسان حاله يقول:
يا علماء الدين يا ملح البلد
ما يصلح الملح إذا الملح فسد
نمت يوم الاثنين الموافق 17/ 9/1430 هـ بعد صلاة الظهر ورأيت في المنام سماحة الشيخ الوالد عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله وكأنه في أرض خضراء أو حديقة غناء ويكلمه سعود اليسر ورأيت شاباً جميلاً يبتسم اسمه عبدالله الفلاح فاستيقظت مستأنساً بالسعادة واليسر والعبودية والفلاح وأهمها رؤية الرجل الصالح الولي إن صح التعبير سماحة الوالد.
ثم أمسكت بالقلم لأكتب بعض ذكرياتي مع سماحته رحمه الله تعالى والتي تنشر الآن. (2)
كتبه خادم أهل العلم
محمد بن عبدالرحمن بن حسين آل إسماعيل
www.alismaeil.com (http://www.alismaeil.com)
(1) سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز 1/ 2 ( http://www.alismaeil.com/wp/?p=360)
(2) سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز 2/ 2 ( http://www.alismaeil.com/wp/?p=371)
¥