ونظرائهم
وكان من أخص الناس بالشيخ حماد وعنه أخذ معرفة الكتب والهيام بها بل حمل عنه حتى مشيته وحركاته وحتى قال العارفون بهما: إنه ما غادر من مشية شيخه ولا من حركاته شيئا.
هذا مع تواضع جم وبشاشة دائمة في عفة وصيانة وخمول ونفور شديد من الذكر والشهرة، بلغ به ذلك أن قال لنا في بعض المجالس:
(إن الشيخ عبد المحسن العبّاد الآن هو أعلى الهرم الديني في المدينة)
فبادره بعض من كان حاضرا بأنه يريد عمل ترجمة للشيخ عبد المحسن وسيحلّي ترجمته بهذه الكلمة، فرأيت الشيخ ذاب كما يذوب الملح في الماء وألحّ على الرجل ألا يفعل، فلما أبى عليه قال:
(إن كنت لابد فاعلا فاكتب:قال بعضهم!)
له مع أهل الجزائر ـ طلبة ومشايخ ـ علاقة خاصة وترابط وثيق، من صوره:
1ـ أنه درّس في كليّة الحديث بالجامعة الإسلامية عددا كبيرا من مشايخنا و الكثير من الطلاب الجزائريين
والذين كان يذكرهم منهم ويثني عليهم ستة:
الشيخ رضا بوشامة
و الشيخ جمال عزون
و الشيخ عمار تمالت
و الشيخ كمال قالمي
و الشيخ فريد عزوق
و الشيخ عبد الخالق ماضي
2ـ كان يستزير من يقدم المدينة من مشايخ البلد كالشيخ أبي عبد الرحمان محمود والشيخ عبد الغني ويدعوهم إلى بيته ويعقد معهم المجالس العلمية الطيّبة بحضور عدد من طلاب العلم.
3ـ وكان دائم السؤال عنهم الثناء عليهم، يجلّهم ويوقّرهم ويصفهم بالقوة في العلم ويقول: إنهم لا ينزلون عن رتبة بعض المشايخ عندنا، وشكوت إليه مرة حال البلد وقلة الأشياخ فقال: من عنده فركوس لا يحتاج إلى أحد.
أما الشيخ عبد المالك رمضاني فمنزلته عنده فوق المنازل،اجتمعا مرة في بعض الأماكن وحول كل واحد منهما جماعة من الطلاب فقام الشيخ يوسف بمن معه إلى مجلس الشيخ عبد المالك وقال له: أنت يؤتى إليك ولا تأتي،
ولقد شهدت منهما موقفا لست أعدله بسواه، وذلكم أنهما دعيا إلى عقيقة فاصطحبني الشيخ يوسف معه فلما وقفا بالباب جعل كل واحد منهما يقدم الآخر ليدخل أولا فتجاذبا ساعة ثم قال الشيخ عبد المالك: أنت أكبرنا وأعلمنا، فقال الشيخ يوسف: أنت أيمننا، وكان موقفه عن يمين الشيخ، فقال الشيخ عبد المالك: غلبتني بالسنة، فدخلا، ولما كانا في مداخل البيت تحول الشيخ عبد المالك إلى اليمين حتى إذا وقفا على باب غرفة الجلوس قال للشيخ: أنت الآن من أيمننا، فغلبه ودخلا.
كان شيخنا يقول: العلم هو التوحيد، وكل علم لا يخدم التوحيد فليس بعلم، ويستشهد على ذلك بقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في ثلاثة الأصول:"العلم معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم".
فإذا شابت علم الرجل وتوحيده شائبة ترى الشيخ لا يحفل به ولا بعلمه، وقد شرعت مرة في الدراسة على بعض أشياخي من أهل شنقيط ـوقد علم ما عندهم من نقص في تحقيق هذا البابـ فأنكر عليّ شديدا وقال: لا أريد أن يكون في شيوخك إلا سلفي قحّ.
وكذلك الفقه عنده، ليس هناك فقه غير فقه الدليل ولا مذهب غير مذهب أهل الحديث، ومن قصتي معه في هذا أني كنت أدرس مختصر خليل واعتذرت له بحاجتي إلى معرفة مذهب أهل بلدي فلم يقبل مني وقال: خليل خلاف الدليل وهذا موطأ مالك خير لك من خليل وأنفع، فلما قدم الشيخ أبو عبد الرحمان محمود حاكمني إليه فقضى لي عليه، فرد الحكومة وقال: لا ولو أتيتني بعلماء الدنيا، ثم قدم الشيخ عبد الغني بعد ذلك فعرض عليه القصّة فقضى الشيخ له وقال في كلامه: الموطأ خير موطئ ـأي خير موضع قدمـ فالتفت الشيخ يوسف إلى أهل المجلس وقال: اكتبوا هذه الكلمة الذهبية.
وله مع الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله قصة عجيبة حدثنيها، قال: لما كنا طلبة دخلت قسم الدراسة وأنا طالب جديد فلم أجد مكانا أجلس فيه فقام الشيخ مقبل من الصف وأجلسني مكانه وبقي هو قائما، قال: فقلت له: هذه الوقفة دين عليّ وسأرده لك إن شاء الله.
ثم حدث ما حدث وأكملا دراستهما وسفّر الشيخ مقبل إلى اليمن ولم يرجع إليها إلا في آخر عمره، فلما سمع الشيخ يوسف بمقدمه أتاه وهو يطوف بالبيت وكان يتابع الطواف أسبوعا بعد أسبوع لشدة شوقه إلى البيت فقام ينتظره ليسلّم عليه، وكره أن يقطع عليه طوافه، فلما فرغ الشيخ من طوافه أقبل إليه وسلم عليه وقال له: هذا الدين الذي عليك قد قضيته. وكان ذلك بعد نحو من أربعين عاما.
¥