كشفِ ما يقعُ من الخمول والغُمَّة , قاصدينَ بذكر السير والشمائل نسبة الفضل لأهله من غير اعتقاد العصمة والكمال إلا لمن عصمهُ الله من الأنبياء والرسل.
لقد كانَ الشيخُ رحمه الله تعالى وقدسَ روحهُ من أضبطِ النَّاسِ للعلمِ وأحفظهم له , ومن أرجحِ العلماءِ كفَّةً في ميزانِ النفعِ والتعليم والإصلاحِ وبسطِ اليدِ واللسانِ والقلم بالنصيحة لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامَّتهم , أمضى قريباً من أربعة عُقودٍ عضوا في هيئة كبار العلماءِ يفتي ويوجهُ وينصحُ ويُشيرُ ويقوِّمُ ويُسدِّد , عفُّ اللسانِ طيبُ المعشرِ ليِّنٌ هيِّنٌ , خافضُ الجناحِ لكل قاصدٍ ومُريد , حتى إذا أريدَ على ما يكرهُ استشاطَ شهاباً حارقاً يقذفُ البطالينَ من كل جانبٍ غيرةً على دين الله , بلغ التسعينَ من عمرهِ وهو يُحمِّلها ما أعياها من معالي الأمور ومدارج السعود
(تسعونَ لو صعدت كواهلَ شامخٍ - - لتدكدكت هضباتُه إعياءا)
لم تبهرهُ إشعاعاتُ المناصب ولم تأسرهُ قِلاعُ الألقابِ والمُسَمِّيات , ولم يعرفْ إليهُ العجبُ والاعتدادُ بالنفسِ طريقاً , فعلى قدرِ ما استودعهُ الله من الفقهِ والعلمِ وبُعدِ النَّظَرِ والحكمة والأناةِ إلا أنَّهُ كانَ عبارةً وافيةً جامعةً مانعةً لمن يطلبُ للتواضعِ توصيفاً وتعريفاً , وهذا هو المُرتقى الصعبُ الذي لا يلقَّاهُ إلا ذو حظٍّ عظيمٍ أعني التواضعَ من أهل الرفعةِ والجاهِ كما روي عن عن عبد الملك بن مروان أنه قيل له من أفضل الناس؟
قال: (من تواضع عن رفعة).
وكانَ رحمه الله قليلَ الكلامِ لكنِّهُ إذا تكلَّمَ وقرَ صوتهُ في قلوب السامعينَ قبل آذانهم وخشعتِ الأصواتُ هيبةً لحديثه , يكرهُ اللجاج والمجادلة مع ما فطرهُ الله عليه من حدَّة الذكاءِ وقوَّة الحُجَّة وحضُور البديهة , كانَ رحمة الله عليه قبلةً يؤُمُّها طلبةُ العلمِ والعُلماءُ وأساتذة الجامعاتِ والمفتونَ والقضاةُ والخطباء والدهماءُ والعامَّةُ , يردونَ منهلهُ العذبَ الصافيَ ويصدرُ الواحدُ منهم وهُو رُواءٌ , تولَّى القضاءَ والإفتاءَ ومناقشةَ الرسائلِ والإشرافَ عليها وعضوية هيئة كبار العلماء وغير ذلك من موجبات الرفعة والتشريفِ, لكنَّ هذه الرتبَ الرفيعةَ لم تزدهُ إلا تبسطاً وخفضَ جناحٍ للمسلمينَ , ولم تُنسِهِ أن لضعافِ المسلمينَ حقاً على العُلماءِ , ففي جنَبَاتِ هذا المسجدِ وغيرهِ كانت ظهيرةُ كل خميسٍ شاهداً عدلاً عند الله على حرصِ الشيخِ على الجالياتِ إذ كان يجتمعُ إليه المسلمونَ النَّاطقونَ بغير العربيةِ ويَفِدونَ مع أزواجهم وذرياتهم يعلمهم أركانَ الإسلامِ وأصول العقائد ومعلومَ الدين بالضرورة , ويجيبُ عن كل ما استغلقَ عليهم فهمهُ من تعاليم الإسلامِ , فلمَّا قيلَ لهُ لو كفاكَ مهمَّةَ هؤلاءِ غيركَ قال رحمه الله إنِّي أخافُ أن يتلقَّفَ هؤلاءِ الإخوةَ بعضُ المتعالمين أو المبتدعة فيضلوهم عن سواء السبيل أو يُشغلوهم بأمور لا تنفعهم في دينهم
وكأنِّك بأولئك وقد قشع الله عنهم بالشيخ غياهب الجهالة يندبونه بقول القائل:
يا منْ تواضعهُ عونٌ وسؤددهُ - - نجدٌ وهمَّته التَّفريجُ للكربِ
أوْصِ الزَّمانَ بحفظي من نوائبهِ - - فإن أحداثهنَّ السودَ تلعبُ بي
وكانَ رحمة الله عليه رغم إقامته الدائمةِ في الرياضِ رحَّالةً عبرَ الهاتفِ يسيرُ كما يسيرُ السحابُ المنبسطُ في السماءِ يصيبُ الله به من يشاءُ من عباده , يدرِّسُ في المراكزِ الإسلاميةِ والمساجدِ في بلاد الغربِ ويُفتي السائلينَ ويهدي الحائرين, يتنقلُ بين البلدانِ الإسلاميةِ بل ويُدرسُ في المسجدِ الحرامِ وما والاهُ من المدنِ جنوباً , ويبلغُ صوتُهُ ما لم يصلهُ بدنُهُ من بعضِ مُدُن المملكة التي كانت لهُ فيها دروسٌ ومشاركات , كل ذلك من غيرِ دعايةٍ أو إعلانٍ ولا بهرجةٍ ولا اغترار , وكانَ في مسيرةِ حياتهِ العلميَّةِ شديدَ الورَعِ والتخَفِّي , ذي همَّةٍ في البعد عن الأضواءِ كهمَّةِ المتعالمينَ الأغرار في أن تمتلئَ بهم شاشاتُ الإعلامِ , ويوصي أقربيه ومريديه بتناسي كل ما لا تشتغلُ به الذمَّةُ في تربيةٍ منهُ على التخففِ من أحمالِ المظالمِ والمغارم , يُسألُ عن حالهِ وهو كهلٌ ناهزَ التسعينَ بعد حادثٍ مروريٍّ أليمٍ في طريقه إلى أحد الدروس العلمية فيقولُ في رضاً عن الله إني لأخشى أن أكونَ مُستَدرجاً
¥