وأنا لا أُعتبر من طلاب الشيخ في عُرف طلبة العلم لأني لم أقرأ عليه في شيء من المتون , لكن في عُرف العِلم فأنا أحدُ طلابه إن لم أكن من أكثر المستفيدين منه , فقد استمعت لغالب شروحه الصوتية إن لم يكن كلها ولعدة مرات , وسائلته شخصياً في بعض سفراتي للرياض.
سبحان الله , عندما أرى هذا المحدث الناقد أتذكر تسمية الإمام سفيان بن عيينة لعلي بن المديني – رحمهما الله – " بحيّة الوادي " , وكان إذا سُئل يقول لو كان حية الوادي!!!
هذا المحدث برع في علم الحديث حتى بز الأقران وفاق الخلان وأشير إليه بالبنان , إذا تكلم في العلل فكأنك في مجلس علي بن المديني , وإن فصّل في الرجال وأحوالهم فكأنك تسمع من فيّ يحيى بن معين , وإن رأيت سمته ووقاره خيّل إليك أنك أمام أحمد بن حنبل.
الشيخ المحدث عبد الله السعد – حفظه الله من كل سوء – هو أول من شهر التباين المنهجي بين طريقة المحدثين المتقدمين وطريقة المحدثين المتأخرين , فما أن قال بهذا حتى رُمي الشيخ عن قوس واحدة , وشنّع عليه وبدّع بسببها , وجاءت الردود عليه من كل حدب وصوب والشيخ يرد عليهم بالبراهين والأدلة , فما هي إلا سنوات فرجع هؤلاء لقوله وأنقلب الغضب إلى حب , حتى أصبح الذين شنعوا عليه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط لمن يشاء , بل سمعت بأذني أحد كبار الأئمة في هذا الشأن وكان ممن وقع في الشيخ لهذه المسألة يقول في مسألة من المسائل الحديثية " وهذا قول المتقدمين من أهل الحديث "!!!
إذا تكلم الشيخ في مسألة حديثية أشبعها وأتاها من كل جوانبها حتى أنك لتقول من يستطيع أن ينصر هذا القول بعد أن خذله أو أن يخذله بعد أن نصره!!!
إذا ذكر أهل الحديث النقاد في هذا العصر ذكر الشيخ الناقد عبد الله السعد في المقدمة , فلا أحد يدانيه في هذا المضمار فضلا على أن يجاريه , فهو يجري في رمك وغيره يدور في فلك!!!
إن تكلم في الحديث قام بحجته , وترك شانئه يتردى في لجاجته , وإن سَبَر مرويات أحد الرواة , خَلُص إلى قول فصْل , لا يعمّي عليك تعمية بعض المتأخرين , وما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنا ببعيد!!!
له في علم الحديث اليد الطولى والتربة الأولى والقدح المعلى , شهد له بذلك العلماء والعامة على قول سواء , وأمة النبي صلى الله عليه وسلم " لا تجتمع على ضلالة "!!!
سَئلتُ شيخ شيوخنا العلامة / عبد الرحمن البراك عن مسألة عقدية حديثية فقال لي: اسأل عن هذه المسألة الشيخ عبد الله السعد!!!
" والعلم رحمٌ بين أهله "
إذا جلست مع الشيخ المحدث عبد الله السعد – سدده الله وفرج عنه – رأيت رجلاً ظاهره السنة , محباً للسنة , عاملاً بالسنة , معظماً للسنة , ولا يحدث أحداً حتى ينهي أذكار الصلاة بترسل , يخفيها ويجهر بها أحياناً لكي لا يشغله أحد , فإذا فرغ أقبل عليك بوجهه يحييك ويسأل عن حالك , لا يفوّت سنة في موضعها فتجده يجيب عليك فإذا سلّم أحد رد عليه بصوت جهير " وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته " حتى لو كان المسلّم من أقصى المسجد!!!
وإذا قام يؤدي السنة الراتبة قلت في نفسك لن ينفتل حتى يغلق المسجد , ويخبرني أحد الأخوة من طلبة العلم أنه زار الشيخ فأضافه الشيخ في بيته , يقول فدخل الشيخ ليصلي راتبة المغرب فصلى ونسينا في المجلس يقول فصلى الشيخ قرابة 40 دقيقة وقد نسي أن في ضيافته أحد ثم لمّا سلم من صلاته جاءنا يعتذر ويتأسف , يقول صاحبي فما زال يعتذر منا طوال المجلس!!!
فرأس العلم تقوى الله حقا ... وليس بأن يقال لقد رأستا
سألتُه في إحدى المرار عن علة في سند حديثٍ وقد بحثتُها من قبل حتى خيّل إليّ أن لا مزيد لقول فيها , فتكلم الشيخ عن السند وأتى بكل ما في بحثي وزاد عليه علة خفيّة في السند , فصرت أقلب كفيّ عجبا بما أوتي الشيخ , وأعجب من دقة نظره , وسرعة استحضاره للمسائل!!!
وهذا يعرفه كل من حضر عند الشيخ أو سمع له شيء من شروحه , حتى أن أحد المحدثين الكبار في هذا العصر صحح حديثاً بعد أن بحث سنده ورجاله , فلما سُئل الشيخ المحدث عبد الله السعد عنه ضعّفه , فقيل إن فلاناً يصححه , فقال في الحديث 7 علل!!! وسردها كاملة , فسمعنا بعد ذلك أن هذا المحدث رجع عن تصحيح الحديث!!!
وقد أتيته مرة وهو خارج من المسجد وكان مستعجلاً ليدرك موعداً له فسلمت على الشيخ وقلت يكفيني السلام عليك , وقد أتيته في زيارة قبل ذلك , فقال الشيخ: أنت من خارج الرياض؟ قلت: نعم يا شيخ , فأخبرني بعذره وأنه مرتبط ثم قال: إن أتيت لتسأل فتفضل , وأنت أولى , فقلت بل وقتك أولى , ويكفيني السلام عليك , فألح عليّ إلا إن كان عندي مسائل أن أقولها فسألته مسألة واحدة فأجاب عنها ثم دعا لي وأنصرف , فكان وقعها في نفسي أكبر من لو أني سائلته بما عندي!!!
ومواقف الشيخ المحدث البارع عبد الله السعد كثيرة لا تزال ذاكرتي تحتفظ بشيء منها , على قلة مجالستي له ولو سُئل أحد طلابه المقربين منه , لكشف عن علم وتواضع وعبادة وخفي عظيم.ولولا الاختصار " عُرفاً " في المقالات , لزدت عما ذكرت من مواقف شاهدتها أو نُقلت لي ولكن المقام مقام اختصار ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
ورحم الله الذهبي وصب على قبره شآبيب الرحمة والرضوان حيث يقول " علم الحديث صلف فأين علم الحديث وأين أهله كدت أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب "
فرّج الله عن شيخنا المحدث عبد الله بن عبد الرحمن السعد , وجعل ما أصابه تخفيفا لذنبه , ورفعة لدرجته , وعلواً لذكره , في الدنيا والآخرة.
أخوكم / موسى الغنامي.
¥