وهنا غير الأستاذ لهجته من السخرية إلى الجد، واتجه إلى الطلبة يقول: لا تعجبوا يا شباب ولا تستبعدوا، فكم من شباب طامحين كانت لهم أمان كبيرة تحققت. وهذا الموقف أعجب العسال، فجاء بعد انتهاء الدرس، يشدُّ على يدى، ويتعرف علىَّ، ويُعرِّفنى بنفسه، ومن الطرائف: أنه منذ سنين كنت فى لقاء صحفى، وذكرت هذه القصة وسألنى الصحفى: واليوم أما زلت تتمنى ذلك؟
قلت: لا، لأسباب كذا وكذا. وكان أخى العسال حاضرا بالمصادفة، فقال: إن الله ادخر لك ما هو أعظم من منصب مشيخة الأزهر: أن تكون شيخا للأمة كلها! وهذا من حُسْن ظنه بأخيه. هكذا بدأ تعارفنا.
ثم ازداد تعارفنا وتوثق، حين التقينا فى «دار الإخوان المسلمين» بطنطا شعبة قسم ثانى، كما التقينا فى نشاط آخر داخل الإخوان، وذلك فى «قسم نشر الدعوة»، حيث كانوا يبعثون بنا إلى بعض القرى والمراكز المحيطة بطنطا لنشر الدعوة فيها.
وكلما مرت الأيام توثقت صلتنا، وازداد ارتباطنا، وتواصل نشاطنا لمناصرة القضايا الوطنية، وكنا نُخرج الطلاب، ونقود المظاهرات، ونُلهب المشاعر، ونتعرض لمصادمة الشرطة، فيقبضون علينا، ونُلقَى فى حجز قسم الشرطة، وقد نتعرض للضرب، ثم يُفرج عنا، وفى كل هذه الأنشطة كان العسال معى جنبا إلى جنب، بالإضافة إلى أنشطتنا المشتركة داخل الإخوان، التى تتسع وتتعمق يوما بعد يوم، فى قسم الطلبة.
وتخرجت فى كلية أصول الدين وتخرج العسال فى كلية الشريعة، والتحقنا كلانا بتخصص التدريس، التابع لكلية اللغة العربية، لندرس فيه علوم النفس والتربية النظرية والعملية.
وتعرضنا للاعتقال مرة أخرى، وقبض علينا نحن الاثنين، قبض على العسال قبلى، واختبأت أنا فى بيت خالتى فى طنطا، وما أسهل ما اكتشفوه، واقتادونى بسهولة إلى مباحث المحلة الكبرى، التى أمرت بتعذيبى والتحقيق معى، ثم انتهى بى المطاف إلى القفص الكبير، السجن الحربى الذى فَغَر فاه لابتلاع الجميع.
وبعد خروجنا من السجن الحربى بحثنا عن سكن مشترك، فوجدنا شقة بحدائق شبرا، حيث كنت أسكن من قبل، وسكن العسال معى، ثم بدأنا نواجه مشكلة العمل، فقد قدَّمنا للتعيين مدرسين فى معاهد الأزهر، وعُيِّنا بالفعل، وأعلن الأزهر عن اسمينا فى الأسماء المُعينة، ثم سرعان ما جاءت مذكرة من الداخلية أو المباحث العامة إلى إدارة الأزهر، تلفت نظرهم إلى ضرورة عرض الأسماء التى توظف فى الأزهر على المباحث، لأخذ الموافقة عليها، قبل الإعلان عنها، وذلك بمناسبة الاعتراض على تعيينا فى التدريس بالأزهر، أو فى أى عمل يتصل بالجماهير.
وبدأنا ــ العسال وأنا ــ فى البحث عن عمل مناسب لنا، بعيدا عن العمل الرسمى. وكان أنسب عمل لنا هو تدريس اللغة العربية فى المدارس الخاصة، ولكن دون جدوى، وبعد أن تعبنا ومللنا، وجدت إعلانا فى الأهرام أن مدارس الشرق الخاصة فى الزمالك تطلب مدرسين، فدعوت العسال لنذهب إليها فرفض وأبى، وقال: لقد رفضتنا مدارس فى بولاق، أفتقبلنا مدارس الزمالك؟! اذهب أنت إذا شئت! قلت: سأذهب وأعمل ما فى وسعى والباقى على الله.
وذهبت إلى المدرسة، وجلست أنتظر وفوجئت بأن الرجل طلبنى ورحب بى، وقال لى: إنى قبلت طلبك، وكان المدير الإدارى والمالى للمدارس حاضرا، فقال: ولكن لنا عندك رجاء يا شيخ يوسف. قلت: تفضل، مُر. قال: أنت تعرف أن لكل بيئة ما يناسبها، ونحن فى الزمالك محل البكوات والباشوات، ربما لم تكن الجبة والعمامة هى الأنسب، وأعتقد أن «البذلة الإفرنجية» ستكون جميلة عليك! قلت: نعم، أعرف ذلك، وأعرف أن الشرع يراعى الأعراف أيضا، وعلى بركة الله.
وعدت إلى مسكننا فى شبرا، لأخبر أخى العسال بما حدث معى، وبقبولى فى مدارس الشرق الخاصة بالزمالك، وبطلبهم منى أن أغير زيى، فأصبح بدل «الشيخ يوسف» «يوسف أفندى»! وضحكنا على هذا التغيير المفاجئ. وقال الأخ العسال: أنت الآن تطبق نظرية ماركس فى أن الحاجات الاقتصادية هى التى تغير سلوك الإنسان، فما كان أحد يظن أن الشيخ يوسف سيخلع يوما «كاكولته» وعمامته، لولا الضرورات الاقتصادية التى تفرض على الإنسان ما لم يكن فى خطته. وبعد أيام عثر العسال على مدرسة مناسبة أيضا.
¥