[أنور الجندي راهب الفكر .. وحارس الثغرة]
ـ[محمد مبروك عبدالله]ــــــــ[19 - 10 - 10, 12:36 ص]ـ
[أنور الجندي راهب الفكر .. وحارس الثغرة]
عبد السلام البسيوني
سمه راهب المعرفة .. سمه الورع العفيف .. سمه التقي الخفي .. سمه الزاهد في الدنيا كلها .. سمه الرجل الأمة .. سمه حامي الثغر الفكري للإسلام .. سمه حائط الصد ضد العلمنة والتغريب والانبطاح .. وستكون في تسميتك هذه محقًّا؛ فالرجل ذلك، وأكثر من ذلك .. ولا أزكي على الله تعالى أحدًا!
واعجب معي كثيرًا، واندهش متسائلاً: لماذا كان خفيًّا، وأشخاص في ربع قامته يتطاولون؟
ولماذا كان منسيًّا، و (مساكين) يُذكرون ويُبرزون؟
ولماذا تجاهله كثير من أصحاب اللافتات الإسلامية حيًّا وميتًا، في حين أن مجاهيل يُبكى عليهم ويؤبنون!؟
وإذا عرفت الإجابة فأفدني أفادك الله تعالى فأنا في حاجة ماسة لمعرفة تلك الإجابة!
في بعض الأجيال العوجاء - كجيلنا - تنقلب المفاهيم وتختل النسب، ويطفو الزبد التافه على السطح الموّار، فلا ترى على وجه الماء إلا قشًّا، وقصاصات جرائد، وفضلات من الزبالة، وقطع الخشب، وربما رأيت جثة منتفخة (لكلب نافق) أو حمار (فطيس)، في حين يرسب في القاع الجوهر والدر الثمين، هنالك في الظلام بعيدًا، حيث السكون التام والبعد السحيق، ومن أراد الحصول على شيء من اللؤلؤ والكنوز الخبيئة، فلا بد له من أن يغوص ويغوص، محتملاً ضغط الماء، وظلمة القاع، ومخاطر البعد عن الأُنس.
وفي زمننا - المدهش - عدد من الرجال اللآلئ، الذين يتمتعون بخاصية الندرة والنفاسة وارتفاع القدر، وأشباههم من الذين لم تستغوهم الفلاشات، ولم تستهوهم الشاشات، أو تسحرهم وتتلعب بهم الإذاعات.
وهذه قضية تاريخية، ليست وليدة أيامنا، إنما هي بلية قديمة: فهذا أبو حيان التوحيدي يحرق كتبه التي أنفق عمره وعقله عليها؛ لأنه رأى أهل زمانه يتجاهلونه ولا يقدرونه ..
عالم آخر - نسيت اسمه - يترك البلد ويهاجر، فيسأله تلاميذه الذين لم يفطنوا لحاله:
لماذا تتركنا وتنتقل عنا؟ فقال: لو وجدت كيلجة باقلاء لكفتني، ولما فارقتكم! نعم إنه النحوي البصري النضر بن شميل.
كأنها حتمية أو سنة مطردة: من شاء أن (يقِبّّ) على السطح فليس له بد من أن يغازل أعتاب الوجهاء، أو يبش في وجه (قبضايات) القرن - الصحفيين والإعلاميين، رضي الله عنهم ومد ظلهم العالي - لعله أن يحصل له شيء من الانطلاق والتلميع و (البروزة).
أما من رزقوا الشَّمم، وعلو الهمم، وتقدير النفس، فإنهم يبقون معرضين عن السفاسف، طالبين للمعالي، متفرجين على ما يدور من عجائب وتناقضات، راصدين - في توتر - للتحولات في الأفهام التي باتت تقبل ما لم يكن مقبولاً، وتستبيح ما ليس يستباح؛ بل ما لا يخطر ببال أحد أن يقترب منه.
ورحمة الله على القاضي الجرجاني الذي صرخ منذ وقت بعيد:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان .. ولطخوا محياه بالأطماع حتى تجهما
أأشقى به غرسا .. وأجنيه ذلة؟! إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ورحمة الله على البارودي فارس السيف والقلم الذي قال:
خُلقت عيوفا لا أرى لابن حرة عليّ يدا أُغضي لها حين يغضب
إذا أنا لم أعطِ المكارم حقها فلا عزني خال .. ولا عزني أب
ومن اللآلئ التي سكنت قاع المولد الإعلامي والدعوي الأستاذ العالم المتواضع - أحسبه والله حسيبه - أنور الجندي .. الذي خسرته أمة لا إله إلا الله، ولم يزاحم أحدًا في محاضرة، ولا موقف فخر، ولم يزعج وسائل الإعلام كي تتابع أخباره، وتتحدث عن عنترياته وبطولاته منذ كان في (اللفةّ).
رأيته مرة واحدة قبل عقدين من السنين، حين ذهبت إليه في بيته بالطالبية، في جيزة مصر، فلقيت رجلاً من النادرين، بسيطًا بساطة عاميّ خام، متواضعًا تواضع زاهدٍ، لينًا لين أب رحيم، واقعيًّا لدرجة تدعو للأسى والغضب.
¥