تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

رأيت ويا سوء ما رأيت، بيته المتهالك في قلب (سوق الخضار) إي والله، ومن الصباح الباكر تقضّ مضجعه نداءات الباعة - عبر مكبرات الصوت - على ما لديهم من (الورور) والجبنة القديمة، واللحمة العجالي، والأمشاط والفلايات، والمناخل، والغرابيل (ولا تين ولا عنب زيك يا برشرمي)، فإذا هدأت ضجة الميكروفونات قليلاً، لم تهدأ مشاجرات ومناقرات جاراته، وكلامهن المنتقى، ولم ينقطع ضجيج (العيال) العفاريت، الذين يتقاذفون الكرة (صدة ردة) في عز نقرة الحر، والمتبادلين لما لذَّ وطاب من الألفاظ التي يحلو للعامة أن يتقاذفوا بها في غير شحناء ولا خصومة.

دخلت حيث يسكن، ومعي فريق للتصوير التلفزيوني بعد أن أنهكنا البحث، فقد كنا نظن أنه من ساكني الفيلات الفاخرة، أو القصور (المحندقة) بتاعة السادة أولياء الله المسقفين، وأخذنا نسأل المكوجي والجزار والجار فإذا هم يقولون في استفهام: من أنور؟ لا نعرف أحدًا بهذا الاسم!

وحين اهتدينا إلى بيته المتهالك، لم نجد مكانا عرضه متر × متر، يصلح لأن نجلس به، بسبب قدم المكان، وكثرة الكتب التي زحفت إلى كراسي غرفة الاستقبال، وسألته:

- ما رأيك يا أستاذنا الكبير لو تحركنا إلى الفندق لنتمكن هنالك من التصوير، حيث المكان أوسع؟

- لا بأس .. كما تشاؤون .. تفضلوا وسألحق بكم.

وبشيء من الانفعال قلت: كيف ستدركنا يا أستاذ في هذا الزحام .. كيف ستقود سيارتك؟

- لا .. لا أملك سيارة .. سألحق بكم بالأتوبيس.

وكأنما لسعني بكرباج فهتفت: الله أكبر .. بالأتوبيس؟ أنت العالم الكبير (تتشعبط) ونحن نسبقك بسيارة خاصة؟

لا حول ولا قوة إلا بالله .. الرجل العظيم .. بعلمه وسنه، وضعف جسمه، ومؤلفاته التي تزيد على المائتين (يتشعبط) في الأتوبيسات، بينما (هلافيت) الثقافة وتجار الصنف يركبون الشبح والزلمكة، ويلعبون (بالأنارب) ويتنعمون في المنتجعات القريبة والبعيدة؟

يا لخيبة أمة تتجاهل علماءها وأهل الفضل فيها.

ركب الأستاذ الزاهد السيارة معنا، وفي الفندق تحدثنا عن قضايا المسلمين في هذه العصر، وعن العروبة، واليسار الإسلامي، والعقلانية، والتراث، وغيرها من الآفاق التي طوفنا فيها، وبعد أن أتعبنا الأستاذ وأزعجناه قدم مدير الإنتاج له ظرفًا به مبلغ من المال وهو يعتذر: "سامحنا يا أستاذ على التقصير، المبلغ لا يليق بكم؛ لكنه رمز لمحبتنا إياكم، فنرجو أن تقبلوه مكافأة رمزية فقط".

- مكافأة؟ أنا لا أعرف أن هناك مكافأة، ولم أقل شيئا يستحق أن أتقاضى عنه أجرًا.

- يا أستاذ: هذا مبلغ بسيط من التلفزيون، وليس منة من جيب أحد، وهو من حقك وليس تفضلاً.

- لن آخذ شيئًا؛ لأنني ظننت أن الحديث بلا مكافأة، ولن أغير نيتي مهما كان الأمر.

- يا أستاذ .. هذا حقك .. نرجوك.

- لن آخذ قرشًا واحدًا .. اسمحوا لي بالانصراف.

وأوصلناه ونحن في حياء منه، ومن تواضعه وورعه، ونحن - أيضًا - في خجل من أنفسنا، وحرصنا على الراحة و (النفخة الكدابة).

كان هذا منذ أكثر من عشرين سنة .. وأنور الجندي ليس مجهول المكان، فكتبه تخرج تترى، ومقالاته تملأ المجلات الإسلامية والحال هو الحال.

إنه الداء الوبيل في الإسلاميين، وواحسرتا عليهم!

لقد أذنب أنور الجندي ذنبا فظيعا لا يغتفر .. أنه عفيف، قارٌّ في بيته .. لا يطرق الأبواب، ولا يزاحم الأتراب، ولا يهمه أن يقال حضر أو غاب!

كما كان أكبر ذنوب أنور الجندي أنه مستقل في تفكيره، مستغرق في مشروعه، غير مهتم كثير بلافتة محددة، فاللافتات - في العمل الإسلامي - تطرد دائمًا من لا يصفق لها، وتعتبره مجذومًا أو مريضًا بالإيدز؛ لا يُقترب منه ولا يُتعامل معه، بل ربما أساءت إليه، وحقرت من شأنه، باسم مصلحة الدعوة؛ أو اختلافًا على فرعية من الفروعيات.

أزعم أن أنور الجندي لو علق (بادجًا) واضحًا على صدره لكان له شأن آخر، ولوجد من يدعوه في المناسبات، ويقدمه في الاحتفالات، ويثني عليه غائبا وحاضرًا.

وأزعم أن هناك (عيال) جهالاً، لا وزن لهم من علم أو سنّ أو دعوة، لكنهم منتمون .. فصاروا بذلك (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ..

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير