ليس ثمة تعبير أصدق من تعبير "العشق" يجسد علاقة الراحل الجليل الدكتور أحمد مختار عمر باللغة العربية وآدابها؛ فقد كنت أراه منشغلا بها في كل وقت، التقيته في مرضه الذي رحل فيه، وكان مرضا ثقيلا لم يكن يقوى فيه على الحركة بمفرده، فقابلني بابتسامته المعهودة مخففا عني، قائلا: "بينما أركب المصعد فاجأني الدوار، فتصورت أن زلزالا بالأرض، ولكنه كان بي"، ثم أردف منشغلا بعشقه للغة قائلا لي: هل تعلم أن كلمة "أرض" تعني أيضا "زلزال"؟ وكان ابن عباس يقول: أزلزال بالأرض أم بي أرض؟! لقد كان -رحمه الله- تشغله اللغة في كل حال.
وتناول مني بعض كتب كانت معي، وأخبرني بعزمه على عمل بحث كبير عن اللغة والمصطلحات المحدثة في كتب المثقفين والمفكرين العرب، كنت أنظر مندهشا ومأخوذا من هذا العشق الذي يخترق الروح للغة القرآن حتى يملك عليه كل جنبات حياته، وبعدها بسويعات لا تُحسب في الأيام أتاني خبر وفاته.
عشق وجهاد .. أو سيرة علمية
تشرب أحمد مختار عمر حب اللغة مبكرا في بيت والده الأستاذ عبد الحميد عمر الذي كان من رجال التربية والتعليم، ثم التحق بعد ذلك بمحكمة النقض؛ فكان يعرف بسيبويه محكمة النقض بعد إنشائها، وتولّي عبد العزيز باشا فهمي رئاستها، الذي ينتسب معه لعائلة واحدة هي عائلة "عمر" بكفر المصيلحة بمحافظة المنوفية، وهي عائلة بزغ منها عدد من أبرز رموز السياسة في مصر قبل وبعد ثورة يوليو.
وقد ولد أحمد مختار بالقاهرة عام 1933، فحفظ القرآن صغيرا، ثم التحق بالأزهر، ثم دار العلوم، وقد حصل على الليسانس منها بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الثانية، وكان أول دفعته سنة 1958، وحصل على الماجستير في علم اللغة من كلية دار العلوم بتقدير امتياز 1963 حول تحقيقه وإخراجه ديوان الأدب للفارابي الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة في 5 مجلدات من عام 1974 - 1979، ثم حصل على الدكتوراة في علم اللغة من جامعة كمبريدج ببريطانيا 1967. فجمع بين التراث والمعاصرة من أوسع أبوابهما.
مشروع لغوي متكامل
لم يكن أحمد مختار عمر -كما يذكر الأستاذ فاروق شوشة- مجرد أستاذ لعلم اللغة، ولكنه كان حركة علمية دائبة، تنشر وهجها في كل موقع يشغله؛ فقد كان رحمه الله مقرر لجنة المعجم العربي الحديث بالصندوق العربي للإنماء الاقتصادي، وهو المستشار لكثير من الهيئات والمؤسسات المصرية والعربية؛ من بينها: لجنة مدخل قاموس القرآن الكريم بمؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ولجنة المعجم العربي الأساسي بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، والهيئة الاستشارية لمعهد المخطوطات العربية وغيرها. وقد عشق أحمد مختار عمر العربية، وعرف أسرارها منذ زمن مبكر، وتشهد بذلك تعليقاته اللغوية والثقافية وهو لا يزال غضا في مجلات الرسالة للزيات، والثقافة لأحمد أمين، والرسالة الجديدة ليوسف السباعي وغيرها؛ فكان -رحمه الله- أقرب لمفكر ومحارب متزن على ثغر اللغة والثقافة، يقدر الجدية والمثابرة التي عرفتها جهود علماء التراث، ويتابع الحديث والمعاصر دون انغلاق أو ذوبان؛ فترك لنا تراثا كبيرا يضم ما ينيف عن ثلاثين كتابا، تتنوع ما بين التحقيق والتأليف والترجمة، كما تحسب وتعرف له ريادته في تحقيق ديوان الأدب للفارابي والمنجد في اللغة.
ويشهد للدكتور مختار عمر ريادته في العربية بثلاثة أعمال هي:
1 - كتابه "في علم الدلالة" الذي يعد الأشهر والجامع المانع في مادته ورؤاه.
2 - طرقه لعدد من مباحث علم اللغة العربية التي لم يسبق لغيره فيها نصيب، من قبيل كتابه "اللغة واللون"، وكتابه "اللغة والنوع".
3 - صناعة المعجم العربي نظرا وتطبيقا: فكان كتابه "صناعة المعجم العربي" الصادر في سنة 1999 هو الأول في مجاله عربيا، وكان مؤسسا لصناعة المعاجم والجمع بين الذخيرة التراثية الهائلة ووسائل التقنية الحديثة، وما ينبغي التزامه أو اجتنابه من عمليات إجرائية أثناء تنفيذ المعاجم، كما قرأ المعاجم المعاصرة والقديمة عربيا ودوليا، كما أن جهوده التطبيقية في عمل المعاجم اللغوية والثقافية تجعله أبرز المعجميين العرب المحدثين دون مبالغة.
وبشكل عام تتبلور أهم جهوده البحثية فيما يلي:
¥