تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هذا العالم الجليل إذا أردنا أن نبحث عن مفتاح لشخصيته يمكننا من خلاله أن نلج حياته، ونبحث عن واقعه، ونتمثل منهجه، ونكشف أسرار عبقريته فلن نجد مفتاحاً أفضل من كلمة (الوضوح) هذه الكلمة التي يبحث عنها الناس في الواقع المتردي، فلا يتكشف لهم إلاّ عن قواصف تلتحف الظلام تمطر القلوب فتناً والعقول شبهاتٍ والحياة مآسي، هذه الكلمة التي تبنى عليها الحياة المستقيمة وتسعد بها النفوس الطيبة، وتلهمها العقيدة القوية، لا يمكن أن توجد في النفس التي تنفح الوجود بغبارها الآدمي، فلا يتكلم صاحبها يوم يتكلم إلاّ وجدت كلماته - مهما بلغت من الرشاقة والسلاسة – مثقلة بغرائزه، ومشبعة بأهوائه، ومتلطخة بأقذاره، فتتناثر عن يمين قلوب الناس وشمالها لتعود إلى منبعها الترابي!

لَقَد جاءَ قَومٌ يَدَّعونَ فَضيلَةً وَكُلُّهُمُ يَبغي لِمُهجَتِهِ نَفعا

وَما انخَفَضوا كَي يَرفَعوكُم وَإِنَّما رأوا خَفضَكُم طولَ الحَياةِ لَهُم رَفعا

هذا العالم الجليل إذا أخذت حياته على التفصيل وجدت الوضوح هو مفتاحها وبابها العتيق، فإذا أتيت إلى علمه وجدته واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، قد اعتمد الكتاب والسنة منهج حياة، وكان له من فهم الواقع الذي يعيشه نبراس يدلّه على مواضع الخلل، يحلله ويعالجه بدقة متناهية وعمق نافذ؛ يلقي على النفوس المتقلقلة الطمأنينة، وعلى القلوب الواجفة السكينة .. ليس كل من كان عالماً كان لعلمه سطوة في حياة الناس؛ لأن هذا العلم إذا لم يكن ذا منهج واضح، ومنبع صاف، لم يزد الحياة إلاّ تعقيداً، ولا المشاكل إلاّ تعسراً .. ولو فحصت الفتاوى المعاصرة – وهي لبّ العلم - لوجدتها دليلاً على مقدار ما في النفوس من وضوح لا تعتوره الأطماع، ولا تكدّره الأهواء ومن عمش لا يغسله النور ولا يستره الديجور، وعالمنا الجليل تجد فتاويه غاية في التحرير والضبط والوضوح، فإذا قرأتها لم تحتج إلى أن تغمض عينيك، وتقلّب الكلام على أوجهه المحتملة لتبحث عن المعاني الشاردة والأفكار السوداء والآراء السرية؛ كما تجد ذلك عند آخرين ممن لا يقدرون على مواجهة الحياة إلاّ بسور من الألفاظ له باب باطنه فيه العذاب وظاهره من قبله الرحمة، لا يفهم رمزها إلاّ خبير متمرّس في تفكيك الشفرات!

وإذا أتيت إلى أخلاقه وجدت الوضوح سمتها، فليس في أخلاقه ما يحتاج إلى التكهنات أو التخرصات، أو يدعو إلى التساؤل الغريب عن التغيرات المفاجئة والتحوّلات المشاكسة، كما نجد ذلك عند آخرين ممن ابتلوا بالناس، وابتلي بهم الناس، لا يستقر بهم قرار، ولا تهدأ لهم أخلاق، فبينما تجده يذوب رقة وعذوبة إذ به قد أصبح مراً عصوفاً، وبينما تلقاه مبتسماً طلقاً إذ بك تلمح بين عينيه سحابة من بقايا سحب عاد، والسبب في ذلك تلك الأحاسيس والميول النفسية المضطربة التي لا تزال تتراكم وتولد أضدادها فتنفجر بها نفس صاحبها فلا يستطيع التحكم بها، ولو أنه عقل الحياة، وعقل الهدف منها، وكان له من طيب عنصره وزكاء أصله وعمق إيمانه رافد؛ لضبط أخلاقه وخلّصها من شوائبها، ولكنه عجز تنتجه الطبيعة الخائنة لتنكشف حقيقة صاحبها للوجود؛ حقيقة لاغية لا عتب إذا أخطأت، ولا حمد إذا برعت!

من كان في وضحِ الظهيرةِ تائهاً هل يهتدي في الليلةِ الظلماءِ؟

يا صاحبي هيهات تبصرُ مقلةً تمشي وراء بصيرةٍ عمياءِ

وإذا أتيت إلى مواقف هذا العالم الجليل من الحياة ومن الناس ومن الأفكار وجدتها مواقف واضحة لا لبس فيها ولا غموض؛ لأنها مواقف يمليها العلم الأصيل، والدين المتين، والأخلاق الزاكية، والشرف الباذخ؛ فنأت عن الغش والتزوير والخداع والذهاب مع المصالح على حساب الحق، فبقيت حرة يعرفها الصادقون، ونقية يؤمها العارفون ومليئة يقصدها الماتحون .. إن مثل عالمنا الجليل في الناس قليل؛ لأنهم بمكانة الشمس من الحياة واحدة لا غناء منها، وواضحة لا غبش فيها، ونيرة لا ظلمة لها. نعم قد تظلم الأعين برمدها، وقد تتسخ النفوس بحظوظها، وقد يستغني البطلة بعجزهم، ولكن ذلك كله لا يغير حقيقة الشمس، ولا ينسخ تاريخها من الوجود.

ولعلكم تتساءلون عن هذا العالم الذي تحدثنا عنه: أحقيقة هو أو خيال؟ أواقع يفيء إليه أبناء الحياة أو سراب بقيعة يحسبه أبناء السبيل شيئاً حتى إذا أتوه لم يجدوه شيئاً ووجدوا أحزانهم وأوهامهم؟ أسحابة نقية تملأ الكون رحمة وعطفاً وعلماً أو سحابة تدثرت بصواعقها تمطر الناس عذاباً وهمًّا وبلاء؟

إنه حقيقة كما أن هذه الكتابة حقيقة تقرؤونها؛ إنه الشيخ العالم: محمد بن أحمد الفراج، نسأ الله في أجله. وحفظ روحه الطاهرة، ووكل السلامة به، وأفرغ الكرامة عليه، وعصب كل خير بردائه، وحشد كل نعمة في رحابه، وجعله خلفاً من كل راحل، ونعمة في كل بلية، ونافحة في كل غاشية ..

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير