تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولما وصلت إلى الثغور لم أكن أملك ولله الحمد إلا نفساً تواقةً إلى العلم وأهله والجمع بينه وبين الجهاد في سبيل الله تعالى، وكنت قد خلَّفْتُ ورائي مكتبةً صغيرة لم يبقَ منها بين يدي اليوم غير كتاب الروح لابن القيم رحمه الله، إلا أن الله تعالى أحسن إِلَيَّ فَرَزَقَنِي عِوَضاً عنها مكتبةً أُخْرَى بَعَثَ بِها إليَّ بعضُ الإخوان بعدَ شهرين من سفري هي نواةُ مكتبتي العامرةِ اليومَ فَلِلَّهِ الحمدُ والمنة.

وكان من أعظم ما يشغل بالي أن لا أنقطعَ عنِ الطلب، وسألتُ الله جل وعلا أن يجمعَ لي بين شرف العلم وشرف الجهاد في سبيله، وزادني حرصاً على متابعة الطلب أني لما قدمت إلى الثغورِ وجدتُها مضطربة تموجُ مَوْجَ البحر بالمناهِجِ والجمَاعاتِ والأَفْكارِ، والعلمُ فيها قليلٌ لا يكادُ يُذْكَرُ، إلا ما كان من الشيخ أبِي محمد عبدِ الله عزام رحمه الله، فكنت مع هذه العواصف الهوجاء كالسنبلةِ تُميلها الريح تارة وتستقيم أخرى، بيد أني أقول تحدثاً بنعمة الله تعالى: لقد منّ الله سبحانه علي منذ النشأة الأولى في الطلب فتشبعت بمذهب السلف أهل الحديث رحمهم الله، وسلكتُ سبيلَهُم عقيدةً وعلما وعملا، وما أعلم شيئاً بعد الشرك بالله تعالى أبغضَ إليّ من التقليد لأحَدٍ مِنَ الخلق كائناً مَنْ كان، فمن زَعَمَ شيئاً رَدَدْتُهُ عليه إلا بدليل من الكتاب والسنة، وحملني هذا على أن انْتَبَذْتُ مِنْ كل تلك المناهجِ مكاناً قَصِيًّا يُمَكِّنُنِي من عَرْضِ أصولها ومُفْرداتِها على مَحَكِّ النقد على قَدْرِ ما يفتح الله به علي لِيَظْهَرُ لِي سانِحُها من بارِحِها، وليتميَّزَ عندي خطؤُها من صوابِها، وكثيراً ما كانت تعرِضُ لي مسائلُ تُشْكِلُ عَلَيَّ وَتُطْرَحُ علَى أنَّها مِنَ مُسَلَّمَاتِ الشرع التي لا تَقْبَلُ نظراً ثانيا!؛ فما كنت أقبلُ ذلك بل أجعلُها قَيْدَ البحث والنظر حتى يفتحَ الله عَلَيَّ فيها ولو بَعْدَ سنين، فكان فَضْلُ الله عَلَيَّ عظيما إذ سلمني من الوقوع في سبل كل منها مَدْحَضةٌ مَزِلَّة، وهدانِي برحمته إلى التي هيَ أقومُ، وزادني نوراً على نور بما فَتَحَ لي من أبواب العلم والخير، وكنتُ كلما اسْتَنَنْتُ فِي رياضِهِ شوطاً أَوْ شوطَيْنِ ازْدَدْتُ مَعْرِفَةً وبصيرةً، وتجلَّتْ أمام ناظريَّ الحقيقةُ واتضحَتْ معالِم الرؤية، فالحمدلله ثم الحمد الله.

وتوفي بعد وصولي أرضَ الهجرة بأشهُرٍ يسيرة العلامةُ المحدث الشيخُ محمدُ عطاءُ الله حَنِيفُ الفُوجْيَانِيُّ السلَفِيُّ صاحِبُ التعليقات السلَفِيَّةِ على سُنَنِ النسائي، وكانَ بعضُ الإخوان قدْ أَخْبَرَنِي بِمَرَضِهِ عندَ وُصُولِي، فآلَمَنِي خَبَرُ وفاته وأنْ فاتنِي السماعُ والإفادةُ منه والله المستعان.

ثم هيأ الله تعالى لي بفضله جملةً من الأسباب التي أعانتنِي على الجمْعِ بين الشرفين، ولقيتُ العشراتِ من العلماء وطلابِ العلم، فجالَسْتُهُم وانتفعتُ بِهم وتَلَمَّذْتُ لِعَدَدٍ منهم، ومنهم مَن اسْتَجَزْتُهُ، وأنا أذكر منهم هنا من تَيَسَّرَ لِي ذِكْرُه علَى وَجْهِ الاخْتِصارِ، أما استيعابُ تراجِمِهِمْ فَفِي موضِعٍ آخرَ إن شاء الله.

فمنهم: أستاذُنا وبركتُنا وقدوتُنا في العلم والعمل الشيخُ العالم المجاهدُأبو محمد عبدُالله بنُ يوسفَ عزام رحمه الله، سمعتُ منه دروساً في أبواب الطهارة والصلاة على مذهبِ السادة الشافعية نحوَ شهر ونصف شهر في بعض الثغور أوائلَ الهجرة، وأفدتُ منه فوائدَ جَمَّةً في مجالسَ متفرقةً بعد ذلكَ إلى مَقْتَلِهِ رحِمَهُ الله، وما أَفَدْنَا منه في العَمَلِ خيرٌ مما أفدْنا منه في العلم، فقد كان رحمه الله رأساً فيه، جَمَعَ الله له بين العلم والعمل وحُسْنِ الأخلاق، صواماً قواماً، كثيرَ التلاوة والذكر، حافظاً لكتاب الله، سهلَ الخُلُق، سمحاً ليناً، بشوشاً فِي وُجُوه أصحابه، يظن كلُّ من لَقِيَهُ أنه أحب الناس إليه، يُسِيءُ الناسُ إليه وهو يُحْسِنُ إليهم، قال لِي مرة وقد بلغ أذى الناسِ مِنْهُ مبلغاً فِي دينِهِ وأمانَتِهِ وعِرْضِه: (قد تصدَّقْتُ بِعِرضِي عَلَيهِمْ فليقولواٍ ما شاؤا، إنما يُريدُون أَنْ يَصُدُّونِي عن الجهاد في سبيل الله ولن أفعل)!، فلو حَلَفْتُ بين الركن والمقامِ أَنَّنِي ما وَقَعَتْ عينِي علَى مثلِهِ لما حَنَثْتُ إن شاء الله تعالى،

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير