ولما عزمت على الرحلة إليه رأيت فيما يرى النائم أنني أقفُ وإياهُ إلِى جدار قصيرٍ في قرية من القرى، وفي يدهِ صَحْفَةٌ من الحلْوى، فوضَعَها بَينَ يدي على الجدار، ثم قال لي: بَقِيتْ أربعُ سنين! وانصرف عني، فوقعَ في نَفْسِي أنه الأجل، لكننِي كنت أدافعه عن خاطري طمعاً في لقائه رحمه الله، وصدقَت الرؤيا والله، وماتَ الشيخ رحمهُ الله لأربع سنواتٍ مَضَيْنَ منها وأَبْقَى في القلب لوعةً وحسرةً ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وحرّرتُ كتاباً بعثت به إليه؛ وصله قبل وفاته بنحو عامين ضمنته نظمَ قصيدة أتشوق بها إليه، وأستفتيه في جملة من المسائل، وهو كتاب مطول أذكره في (الشموخ في فوائد وأسانيد الشيوخ) إن شاء الله تعالى، وهذه أبيات من مطلع القصيدة:
إلى المقدام ذي القِدْحِ المُعَلّى ** سميِّ البدر إنْ بدرٌ تجلّى
إلى شيخي الجليلِ أبي المعالي ** إلى من جاوزَ العلياء فضلا
سلام الله أبعثه إليكم ** وبالبركات بالدعوات تُتْلى
وبالأشواق تحدُوها الأماني ** إلى لُقْياكُمُ أهلاً وسهلا
تُذَكِّرُنِي عُهُوداً خالياتٍ ** شَرِبْنا صَفْوَهُنّ الشهدَ نهْلا
نُرَوِّي من فضائلكم ظمانا ** فهلاّ عُدْنَ بعدَ اليوم هلاّ؟!
ومحلُّها بتمامها حيث ذكرت وبالله التوفيق.
ومنهم: العلامة النحرير ابنُ كَثِيرِ عَصْرِهِ؛ شيخُ الحديث والتفسير، الشيخُ أبو زكريا عبدُ السلام بنُ عبد الرؤوف الرستمي مصنفُ الموسوعة القرآنية المسماة ب (الفرائد الربانية والفوائد القرآنية) في أربع مجلدات كبار، وغيرِها من المصنفات النافعة، قرأت عليه تفسيرَ القرآن الكريم على الطريقة المتبعة عندَ عُلَماءِ هذه البلاد التي وضع أصولَها وقواعدَها العلامةُ الإمامُ الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله، ثم أجازني بعد الفراغ منه إجازة مسندةً ولله الحمد، ثم قرأت عليه أطرافاً من الصحيح للإمام البخاري، ومن السنن للدارمي، ومن الموطأ لمالك رحمه الله، وغيرَهُ مْنْ كُتُبِ السنن، وأَمْلَى عليَّ إسنادَ صحيح البخاري إملاءً، وأجازني بروايةِ كُتُبِ الحديثِ والسنة مِنْ طريقِ الإمام الدهلوي المذكور.
ومنهم: العلامة المفسِّرُ المُعَمِّرُ الشيخُ التَّقِيُّ الْخَفِيُّ الصالِحُ إكرام الدين البَدَخْشِيُّ السلِفِيُّ له مُصَنَّفٌ فِي التفْسير بالعرَبِيَّةِ يبلغُ نَحْوَ عَشْرِ مجلدات أو يزيد، أطَلَعَنِي على بعْضِ مَخطوطاتِهِ لما زُرْتُهُ مِن نَحوِ تِسعِ سنينَ؛ وكانَ وقْتِها يَكْتُبُ في الأجزاءِ الأخيرَةِ منه، و لَهُ كتبٌ أخرى منها؛ كتاب (الباحث عن حقيقة البدع والحوادث) بالعربية أيضا، قرأت عليه أوائلَ الطلَبِ تفسيرَ الفاتحة وسورة البقرة بتمامها ولله الحمد، وعلمَ الفرائض إملاءً فِي العِلْمَيْنِ مِنْ حفظِه!، ولشيخنا إجازَةٌ في التفسير من الشيخِ مُحَمَّد طاهر الفنْجْفِيرِيِّ رحمه الله كما أخْبَرنا بذلك الشيخُ، وهو بإسناده إلى الشيخ الدهلوي رحمه الله.
ومنهم: الشيخ العالم الحافظ حميدُ الله البدخْشي السلفي رحمه الله، المتوفى في نحو سنة 1411 عن عُمُرٍ يُجَاوِزُ الثمانين عاما، وهُوَ الذي يُنْسَبُ إلَيْهِ الفضْلُ في نَشْرِ الدعَوَةِ السلَفِيَّةِ في بَدَخْشانَ منْ بلادِ الأفَغان؛ وكان رحمه الله يستَظْهِرُ صحيح البخاري حِفْظاً، كما أخبرنا بذلك عن نفسه، وِمنْ تصانِيفِهِ بالعَرَبِيَّةِ كما أخبَرَنِي: ماءُ الحياةِ في شَرْحِ حديثِ إنما الأعمالُ بالنيات، قرأنا عليه قطعةً من نُزْهَةِ النظر في شرح نخبة الفِكَر مع حاشيةٍ عليها لبعض علماء الهند وشافهَنا بالإجازة بِها مسندةً إلى الحافظ رحمه الله، وكانت النيةُ معقودةً على الشروع في قراءة صحيح البخاري عليه، إلا أن المنيّة حالت دونَ بلوغِ الأمنية، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
فهذه الطبقَةُ هم أولُ من تَلَقَّيْتُ عنهم أوائلَ الهجرة ولله الحمد، ثم ارْتَحَلْتُ في نحو (1414) إلى بلاد (السند) وأخذت هناك عن:
¥