.. ومن فسر التأويل بالتفسير جاز له أن يصل لفظ الجلالة بما بعده ويقف على لفظ (العلم)؛ لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسيره.
... وأنت تلحظ في هذا المقام كيف اختلف الوقف باختلاف التفسير، وأصل ذلك راجع إلى المعنى المراد بالتأويل، فالمعنى أولاً، ثمَّ يجيء الوقف تبعاً للمعنى.
... ومن أمثلة احتياج علم الوقف والابتداء إلى معرفة النحو ما ذكره النحاس (ت 338 هـ) في استشهاده على ذلك بأن الاختلاف في إعراب لفظ (مِلَّة) من قوله تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] يورث اختلافاً في صحة الوقوف على لفظ (حرج) من عدمه، قال: " ويحتاج إلى معرفة النحو وتقديراته؛ ألا ترى أن من قال (ملةَ أبيكم إبراهيم) منصوبة بمعنى كَمِلَّةِ، وأعمل فيها ما قبلها = لم يقف على ما قبلها. ومن نصبها على الإغراء وقف على ما قبلها " [4].
... ومن أمثلة اختلاف الوقف باختلاف القراءات ما ذكره طاهر بن غلبون (ت 399 هـ) في الاختلاف في قراءة (ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ) من قوله تعالى {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58]، قال: " وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي (ثلاثَ عوراتٍ) بنصب الثاء، ورفعها الباقون.
... فمن نصب لم يبتدئ به؛ لأنه بدل من قوله (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ التقدير: ليستأذنكم هؤلاء لأوقات ثلاث عورات، فلذلك لا يجوز أن يقطع منه.
... ومن رفع جاز له الابتداء به لأنه مستأنف، وذلك أنه يوقعه على إضمار مبتدأ؛ تقديره: هذه ثلاث عورات، أو يرفعه بالابتداء، والخبر في قوله (لكم) [5].
______
... [1] القطع والائتناف للنحاس، تحقيق الدكتور أحمد خطاب العمر (ص 97).
... [2] يريد: الوقف.
... [3] القطع والائتناف (ص 94).
... [4] القطع والائتناف (ص 95).
... [5] التذكرة في القراءات لطاهر بن عبد المنعم بن غلبون، تحقيق الدكتور عبد الفتاح بحيري إبراهيم (2: 571).
... انتهى من كتابه (المحرر في علوم القرآن، ص 252 - 254، ط 2 دار ابن الجوزي). وكان قد قال - أيضا - في كتابه الماتع (أنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرآن) عن كتب الوقف والابتداء:
... " إنَّ لعلم الوقف والابتداءِ علاقةً أكيدةً بعلمِ التَّفسيرِ، إذ هو أثرٌ من آثارِ التَّفسيرِ. ذلك أنَّ مَنِ اختارَ وقفاً، فإنَّه اعتمد المعنى أوَّلاً، ثُمَّ وقفَ، فالواقفُ يفسِّرُ، ثُمَّ يقِفُ، فهو بوقفِه على موضعِ الوقفِ يبيِّنُ وجه المعنى الذي يراه.
... وإذا نظرتَ في كتبِ هذا العلم، أو في وقوفِ المصاحفِ، فإنَّكَ تنطلقُ من الوقفِ إلى المعنى، وليس في ذلك مخالفةٌ لما ذكرتُ لك، وإنَّما اختلفت زاويةُ النَّظرِ، فكاتبُ الوقفِ تفهَّمَ المعنى، ثُمَّ وقفَ، وأنتَ نظرتَ في وقفه، ثُمَّ تعرَّفتَ على المعنى الذي اختارَه.
... وهذا يعني أنَّ بين المعنى والوقفِ تلازماً، وهو أنَّ مَن قصدَ الوَقفَ على موضعٍ، فإنَّه قد فسَّرَ، فإنَّه دلَّ بتفسيرِه على الموضعِ الصَّالحِ للوقفِ.
... ولهذا فإنَّ تفسيرَ السلف يُعَدُّ عمدةً في اختيارِ الوقوفِ، وقد كان أبو عمرٍو الدَّانيُّ (ت 444) يعتمدُ على تفسيراتِهم في بعض ترجيحاتِه في الوقفِ.
... ومن ذلك ما ورد من الوقف على لفظِ (الحسنى) من قوله تعالى {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} [الرعد: 18]، فقد حكم بالوقف على هذا الموضع بالتَّمامِ.
... ثُمَّ قال: " والحسنى ها هنا الجنَّةُ، وهي في موضع رفعٍ بالابتداءِ، والخبرُ في المجرور قبلها، الذي هو (للذين استجابوا).
¥