تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومع هذا التحمل والتنظيم الدقيق، ينبغي ألا تأتي هذه السنوات العجاف على كل المدخرات، وإنما كان يوسف – عليه السلام - واضحًا في قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 48]. فكان هذا الجزء المدخر هو "الخميرة" التي تستطيع بها الأمة أن تقبل متطلبات البذر الجديد بعد سنوات عجاف، أي إعادة استثمار المدخرات.

وبهذا وازن يوسف –عليه السلام - في خطته بين ثلاثة جوانب؛ الجانب الأول الإنتاج، والجانب الثاني الاستهلاك، والجانب الثالث الادخار وإعادة استثمار الادخارات.

وتظهر معالم التخطيط الراقي في كلمات يوسف – عليه السلام - عند تفسيره لرؤية الملك، ولأن التخطيط يعتبر وظيفة أساسية من وظائف الإدارة الخمسة، وهي "تخطيط وتنظيم وتوظيف وتوجيه وإشراف"، والتي لا يمكن لها أن تكون الإدارة فعالة بدونها.

كما أن التخطيط في حقيقته يعتمد على دعامات وعناصر، أما الدعامات فهي: التنبؤ، أي استشراف المستقبل والأهداف، وأما العناصر فهي: السياسة، والوسائل والأدوات، والموارد المادية، والموارد البشرية، والإجراءات والبرامج الزمنية، والموازنات التقديرية، فعندها قال يوسف- عليه السلام -: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. فكان برنامجه الإصلاحي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والإعلامي والزراعي، كل ذلك معد إعدادًا كاملاً ودقيقًا من خلال استشرافه للمستقبل، وتحديده للأهداف لمضاعفة الإنتاج، وتقنين الاستهلاك أو ترشيده، ثم تخزين الطعام. وهذا يقتضي خطة تفصيلية؛ لأن الهدف العام الكبير ليس شيئًا إن لم يقترن بخططه التفصيلية. وهنا يأتي دور السياسات والوسائل والأدوات والموارد البشرية والإجراءات والبرامج الزمنية والموازنات التقديرية، هذا ما فعله يوسف – عليه السلام - في ضوء علم الإدارة الحديثة.

إن من معالم الخطة السياسية والاقتصادية الناجحة أن تكون مبنية على معلومات يقينية صادقة حقيقية لا على الخيال الشعري المجنح الذي لا يرتبط بالواقع، ومن هنا صارح يوسف – عليه السلام - الشعب بالشدائد التي تنتظره، لكنها ليست المصارحة التي تثبط أو تقعد عن العمل، ولكنها التي تدفع للعمل وتزيد الهمة وتدفع للجهد والطاقة.

إن السبع التي تلي الرخاء ستكون مجدبة لا تعطي بل تأخذ وتأكل، فهي تقتضي حرصًا واحتياطًا. ونلاحظ في الآيات القرآنية الكريمة التي تكلمت عن خطة يوسف – عليه السلام - عنصر الأمل والتفاؤل، وهذا الأمر مهم في الخطة الناجحة. قال تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49]. ولا بد من الأمل والتفاؤل في أي خطة، وإلا فإن كان لا أمل فما الداعي إلى العمل! ولقد حرك يوسف – عليه السلام - دوافع العمل عندهم بتحذيرهم من شدة سنوات القحط، ثم حركها ثانية بفتح نافذة الأمل.

الدروس المستفادة من الجانب التنظيمي والتوظيف.

لقد اهتم يوسف –عليه السلام- بالعنصر البشري في خطته لعمله أنه لا تنجح خطة ليس وراءها الإنسان الذي ينفذها، وأما منهجه في التعامل مع الإنسان فقد ظهر في ثلاثة أسس، أولاً في وضعه السياسة العامة وتحديد المرجعية التي تضبط سير عمل المشروع الإصلاحي، وذلك في دعوته للسجينين للتوحيد عندما قال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39، 40].

أما الأساس الثاني الذي رسمه يوسف – عليه السلام - في عملية التوظيف هو الأساس الأخلاقي: {إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، فعندما قال للملك: إني حفيظ "أي أمين"، وهذه الأمانة لا تتأتى إلا بمنظومة أخلاقية مترابطة متماسكة بين أفراد المجتمع، ولا تبنى هذه المنظومة إلا بواسطة برنامج تربوي يشرف عليها علماء ربانيون مؤمنون بهذا المشروع الإصلاحي.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير