تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وتعجب أن يصف القرآن قبل اكتشاف المجهر أطوار الجنين في منظومة دلالية تتكامل بلا اختلاف رغم تعدد المواضع, قال تعالى: ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ? المؤمنون: 12 - 14, وفي مقابل دلالة حرف (الفاء) في التعبير (فخلقنا, فكسونا) على الترتيب والتعقيب بغير مُهلة فإن الأداة (ثم) تقتضي المُهلة؛ فتفيد تأخر مظاهر تكون إدراكه واتضاح حركته الإرادية بمدة أكبر نسبيا في مرحلة لاحقة تلت مرحلة تخليق أوليات الأعضاء التي انتهت باكتمال أوليات الهيكل العظمي والعضلات, والثابت علميا بالفعل أنه قريب الشهرين تكون كل أوليات الأعضاء قد اكتملت بينما يتأخر اتضاح حركة الجنين إلى أربعة أشهر؛ وأنه يمكن رصد انتظام دوري للحركة يعكس وجود فترات منتظمة من النوم واليقظة علامة على بدء المخ أداء وظائفه, قال ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ في تفسيره (ج5ص466): " (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) أي: ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار (خَلْقًا آخَرَ)؛ ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب".

وفي تفسير قوله تعالى: ?وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ? [الحجر: 28و29]؛ نقل الألوسي المتوفى سنة 1270 هـ في روح المعاني عن أبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ تفسيره للتعبير بالنفخ بقوله (ج14ص36): "عَبَّرَ (عن إيقاد الوعي والحركة) بالنفخ الذي يكون سببًا .. لاشتعال الحطب", وفسر الألوسي مضمون المَثَل بقوله (ج23ص225): "نفخ الروح فيه .. إعطائه قوة العلم والعمل", وبعبارة أخرى: نشأة الوظائف الإدراكية وبدء الحركة الإرادية, والأصل في دلالة لفظ (النفخ) في بادية العرب زمن التنزيل هو دفع هواء النَّفّس ليشتعل الحطب وتتأجج النيران؛ وكَأَنَّ روحًا من الفم أوقدته وبثت في ذلك الحطب المُهَيَّأ للاشتعال حركة وحياة, فاستعيرت صورة (النفخ) لبث الملكات العقلية والحركة الإرادية في الجنين؛ وكأن الوعي والحركة اشتعال ما يلبث أن يتضاعف توقده ويتجلى تأججه, وهو من روائع التمثيل ودقيق التعبير المطابق للواقع في القرآن الكريم.

وعبارة النيسابوري المتوفى سنة 728 هـ في غرائب القرآن (ج4ص484): "ليس ثَمَّ نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل .. , ولا خلاف في أن الإضافة في قوله: (روحي) للتشريف والتكريم مثل (ناقة الله) و (بيت الله) ", وعبارة أبي السعود المتوفى سنة 951هـ في إرشاد العقل السليم (ج5ص74): " (فإذا سويته) أي صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية .. (و) سويت أجزاء بدنه .. , (ونفخت فيه من روحي) .. إنما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة (الواعية) ", وهكذا أيد الكثير من المفسرين أن تعبير (نفخ الروح) تمثيل للمعنوي بحسي بغرض بيان بث الحياة الواعية والحركة الإرادية؛ منهم النسفي المتوفى سنة 710 هـ في مدارك التنزيل (ج2ص241) , وأبو حيان المتوفى سنة 745 هـ في البحر المحيط (7ج ص192) , والخطيب الشربيني المتوفى سنة 977 هـ في السراج المنير (ج3ص440) , والشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ في فتح القدير (ج4ص632) , والجاوي المتوفى سنة 1316 هـ في التفسير المنير (ج3ص42) , وقولهم بالتمثيل لبث الروح بمشهد النفخ المحسوس في الحطب يعني تفويض طبيعة الروح كأمر غيبي لعلام الغيوب.

وتتعدد في القرآن الكريم معاني لفظ (الروح) وتُبَيِّن القرائن المعنى اللائق الموافق للمقام؛ وقد يرد لوصف نعمة نفيسة, وفي قوله تعالى: ?إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ? [النساء: 171]؛ قال الرازي المتوفى سنة 606 هـ في تفسيره (ج5ص447): "جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئاً بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب .. وُصف بأنه روح، والمراد من قوله (مِنْه) التشريف والتفضيل؛ كما يقال: هذه نعمة من الله،

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير