قرأت ما كتبه الإخوة عن الوقف القبيح فأحببت أن أشير إلى أمر غفل عنه الكثير حتى البعض من رجالات العلم، مع أن أسلافنا ـ رحمهم الله ـ قد أوصوا طالب العلم بأن يحذر من الوقوع فيه، وهو الفصل بين المتلازمين أو الربط بين المنفصلين، وقد كتبت في هذا منذ سنوات فكان مما قلته في ذلك الوقت: ذكر أسلافنا أمورا ينبغي أن ينتبه إليها الكاتب أثناء تدوينه للعلوم؛ ومن هذه "الأمور" الآداب:
ـ عدم الفصل بين المتلازمين؛ كالمضاف والمضاف إليه، والصفة والموصوف؛ خاصة إذا كانت نتيجة الفصل تؤدي إلى تغيير المعنى؛ قال النووي في التقريب:
ويكره في مثل: عبد الله، وعبد الرحمن بن فلان كتابة عبد آخر السطر واسم الله مع ابن فلان أول الآخر وكذا يكره رسول آخره والله صلى الله عليه وسلم أوله، وكذا ما أشبهه
قال السيوطي في تدري الراوي (2/ 74): "ويكره في مثل عبد الله وعبد الرحمن بن فلان وكل اسم مضاف إلى الله تعالى كتابة عبد آخر السطر واسم الله مع ابن فلان أول الآخر وأوجب اجتناب مثل ذلك ابن بطة، والخطيب. ووافق ابن دقيق العيد على أن ذلك مكروه لا حرام.
وكذا يكره في رسول الله أن يكتب رسول آخره والله صلى الله عليه وسلم أوله.
وكذا ما أشبهه من الموهمات والمستشنعات؛ كأن يكتب قاتل من قوله: قاتل ابن صفية في النار في آخر السطر وابن صفية في أوله. أو يكتب فقال من قوله في حديث: "شارب الخمر فقال عمر: أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به" آخره، وما بعده أوله.
ولا يكره فصل المتضايفين إذا لم يكن فيه مثل ذلك؛ كسبحان الله العظيم يكتب سبحان آخر السطر، والله العظيم أوله، مع أن جمعهما في سطر واحد أولى".
وقد وقع في المصاحف التي بين أيدينا من هذا كثير، وكثير، وبعضها أبشع من بعض؛ ومن المصاحف التي وقفت فيها على ما هو من هذا مصحف الجزائر المكتوب بخط الخطاط الدكتور شريفي، وذلك في قوله تعالى: فَبَعَثَ الله غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْض المائدة: 31 حيث كتب الكاتب كلمة: "فَبَعَثَ" في نهاية السطر، وما بعدها في بداية السطر!!!!
وقد وقع هذا ـ أيضا ـ من كاتب مصحف أوقاف دبي، ولما أعلمتهم بذلك توقفوا عن إعادة طباعة المصحف مرة ثانية، وأرسلوا لي نسخة للقراءة وقد أخذوا بما يقرب من 60% مما كتبته لهم، وفي مقدمة ما صوبوه تلك الجملة فجزاهم الله عن كتابه وقرائه خير الجزاء.
وإنني لم أجد مصحفا التزم فيه كاتبه بهذه الدقيقة العلمية، ولو نظرنا في المصحف المتداول بين أيدي الأمة المكتوب بخط الخطاط عثمان طه لوجدنا فيه الكثير و الكثير، ومن ذلك: قوله: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ البقرة: 124. فإن الوقوف عند "قال لا" قبيح جدا، وذلك من وجهين:
الأول: إنه يؤدي إلى أن ذرية إبراهيم لا تنال عهد الله.
الثاني: فيه إثبات نيل الظلمين لعهد الله، فإنه حينئذ يبتدئ بقوله: يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ من أجل ذلك لا يجوز الوقف على "لا" وما كان في معناه.
فكما لا يجوز الوقف على الكلمات التي تؤدي إلى المستشنع من المعاني كذلك لا يجوز فعل ذلك في الكتابة، فلا ينبغي أن يفصل بين المتلازمين، وأداة النفي والمنفي.
وقد استنكر ما هو من هذا الناس بمختلف مستوياتهم، ومن طريف ما حدث في هذا أنه حدثني ضابط من ضباط الجيش بالجزائر أن صديقا له من ضباط الشرطة أخبره أنه في يوم الأيام أتي مكتبه بمقر "دار الشرطة" في الفترة المسائية فوجد عنوان المقر "دار الشرطة" قد كتب كما يلي: "دار الشر"!!! فغضب غضبا شديدا ونادى: من كتب هذا؟! فقيل له فلان. فهدأ لأنه علم أنه لا يقصد شيئا، وإنما أوقعه في ذلك أنه لم ينتبه إلى معنى ما كتب، فقد بدأ الكتابة في الفترة الصباحية، وعند منتصف النهار ذهب للغداء ولم ينتبه إلى ما ترتب على توقفه عن الكتابة. لما علم الضابط ذلك قال لهم: وأين هو؟ قالوا ذهب يصلي. فقال لهم: عند ما ينتهي اطلبوه لي. فلما دخل عليه قال له: ما ذا كتبت يا بني؟ اذهب اقرأ ما كتبت وتعالى. فقرأ الرجل وعاد إليه. فقال له الضابط: يا بني خطك جميل، ولكن انتبه إلى معنى ما تكتب.
ولقد صدق الرجل يجب على الكاتب أن ينتبه إلى معنى ما يكتب، حتى لا تنقلب له المعاني ويقع في المستقبح.
ومن الأمثلة الموجودة في المصاحف التي بين أيدينا:
ـ قوله تعالى: وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ التوبة: 30 حيث أنهى الكاتب السطر التاسع بقوله: وَقَالَتِ النَّصَارَى وافتتح السطر العاشر بما بعده.
ـ قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ الأنبياء: 25 حيث أنهى السطر الأول من الصفحة 324 بقوله: نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ.
ـ قوله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا الفرقان: 2 حيث ابتدأ الكاتب السطر الأخير من الصفحة: 359 بما يلي: يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ.
وفي مصحف المجمع الجديد ابتدأ السطر بـ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
ـ قوله تعالى: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا نوح: 23 حيث ابتدئ السطر التاسع من ص 571 بما يلي: لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ.
وإنني والحمد لله قد عدلت ما وقفت عليه من هذا سواء في النسخة المنتشرة بين أيدي الناس، أو في المصاحف الخاصة التي أعددتها بنفسي، ولقد دعا لي الكثير من رجات العلم، ومنهم الدكتور أحمد المعصراوي، فإنه لما رأى المثال الأول قال لي: القبح فيه من وجهين.
وبناء عليه واتباعا لما أوصى به أهل العلم ـ رحمهم الله ـ ينبغي على الكاتب أن ينتبه لمعنى ما يكتب كما يجب ذلك على القارئ.
¥