وذكر الحافظ ابن حجر أن في الحديث اختصارًا، أصله كما رواه أبو عبيد: (رفع رأسه إلى السماء، فإذا هو بمثل الظلة، فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها).
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: كنت جالسًا عند النبي ? فسمعته يقول: «تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة». قال: ثم سكت ساعة ثم قال: «تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبر كالرجل الشاحب فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول أنا صاحبك القرآن، الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك، وإن كل تجارة من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والديه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان بم كُسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن. ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ، هذًّا كان أو ترتيلاً». رواه الإِمام أحمد.
قال ابن العربي في (أحكام القرآن): (اعلموا وفقكم الله أن علماءنا قالوا: إن هذه السورة من أعظم سور القرآن. سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر ولعظيم فقهها أقام عبد الله بن عمر ثمان سنين في تعلمها).
قال الشعبي وغيره: ? آلم ?. وسائر حروف الهجاء في أوائل القرآن، من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وهي سر القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى. قال أبو بكر الصديق: في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن، وأوائل السور. وعن ابن عباس أنه قال: معنى ? آلم ?: أنا الله أعلم، ومعنى ? آلمص ?: أنا الله أعلم وأفصل. ومعنى ? آلمر ?: أنا الله أرى. ومعنى ? آلمر ?: أنا الله أعلم وأرى. وقال مجاهد: هذه الحروف أسماء السور. وقال آخرون: إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور، بيانًا لإِعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله؛ وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال الزمخشري: (ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن). انتهى. والله أعلم.
وقوله تعالى: ? ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ?، يقول تعالى: هذا الكتاب وهو القرآن، لاشك فيه أنه من عند الله تعالى، وأنه الحق والصدق، كما قال تعالى: ? آلم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ?.
وقوله تعالى: ? هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ?، أي: رشد وبيان لأهل التقوى خاصة، كما قال تعالى: ? قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ?. وقال تعالى: ? وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلا خَسَاراً ?. قال ابن عباس: التقيّ من يتقيّ الشرك والكبائر والفواحش. وأنشد أبو الدرداء:
يريد المرء أن يؤتى مُناه (ويأبى الله إلا ما أراد (
يقول المرء: فائدتي ومالي (وتقوى الله أفضل ما استفادا (
والتقوى: هي: طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه.
وقوله تعالى: ? الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ?، أي: الذين يصدقون بما غاب عنهم، مما أخبر الله به من أمور الآخرة والقدر وغير ذلك. قال أبو العالية: يؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته وناره، ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيبٌ كله. وعن أبي جمعة رضي الله عنه قال: تغدينا مع رسول الله ?، ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال: يا رسول الله هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك قال: «نعم قومٌ من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني».
وقوله تعالى: ? وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ?، أي: يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها، بحدودها وأركانها وهيآتها، والمراد بها الصلوات الخمس. قال ابن عباس: إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود، والتلاوة والخشوع والإِقبال عليه فيها.
وقوله تعالى: ? وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ?، أي: في جميع ما يلزمهم من الزكاة وغيرها. قال قتادة: هذه الأموال عَوَارٍ وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها.
وقوله تعالى: ? والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ?، قال ابن عباس: ? والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ?، أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم ? وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ?، أي: بالبعث والقيامة، والجنة والنار، والحساب والميزان. قال البغوي: قوله: ? وَبِالآخِرَةِ ?، أي: بالدار الآخرة. سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الآخرة، وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا ? هُمْ يُوقِنُونَ ?، أي: يستيقنون أنها كائنة.
وقوله تعالى: ? أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?. يقول الله تعالى: ? أُوْلَئِكَ ?، أي: المتصفون بالإِيمان وإقام الصلاة والإِنفاق مما أعطاهم الله ? عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ?، أي: على نور وبيان وبصيرة ? وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?، أي: الناجون الفائزون، فازوا بالجنة ونجوا من النار.
¥