تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ونحن نقول: إنه قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الأصلي قبل ورود الدليل الناقل عنه حجة في الإباحة، ومن ذلك أن الله لما أنزل تشديده في تحريم الربا في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:279]، وكانت وقت نزولها عندهم أموال مكتسبة من الربا، اكتسبوها قبل نزول التحريم، بين الله تعالى لهم أن ما فعلوه من الربا، على البراءة الأصلية قبل نزول التحريم لا حرج عليهم فيه، إذ لا تحريم إلا ببيان، وذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة:275] , وقوله: {مَا سَلَفَ} أي ما مضى قبل نزول التحريم، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] وقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23] والأظهر أن الاستثناء فيهما في قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} منقطع أي لكن ما سلف من ذلك قبل نزول التحريم، فهو عفو، لأنه على البراءة الأصلية.

ومن أصرح الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115] , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استغفر لعمه أبي طالب بعد موته على الشرك، واستغفر المسلمون لموتاهم المشركين عاتبهم الله في قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] , ندموا على الاستغفار لهم، فبين الله لهم أن استغفارهم لهم لا مؤاخذة به، لأنه وقع قبل بيان منعه، وهذا صريح فيما ذكرنا.

وقد قدمنا أن الأخذ بالبراءة الأصلية يعذر به في الأصول أيضا في الكلام على قوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] , وبينا هناك كلام أهل العلم في ذلك، وأوضحنا ما جاء في ذلك من الآيات القرآنية. والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ, وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}. الصلصال: الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة، أي صوت إذا قرع بشيء، وقيل الصلصال المنتن، والفخار الطين المطبوخ، وهذه الآية بين الله فيها طورا من أطوار التراب الذي خلق منه آدم، فبين في آيات أنه خلقه من تراب كقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59] , وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] , وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم:20] , وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [غافر:67] , وقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:55].

وقد بينا في قوله تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] , وقوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه:55] , أن المراد بخلقهم منها هو خلق أبيهم آدم منها، لأنه أصلهم وهم فروعه، ثم إن الله تعالى عجن هذا التراب بالماء فصار طينا، ولذا قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:61] وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] , وقال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] , وقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11] , وقال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [صّ:71] ثم خمر هذا الطين فصار حما مسنونا، أي طينا أسود متغير الريح، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26] , قال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:28] وقال عن إبليس: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:33] , والمسنون قيل المتغير وقيل المصور وقيل الأملس، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالا؛ كما قال هنا: {خَلَقَ الْإِِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ}.

فالآيات يصدق بعضها بعضها, ويتبين فيها أطوار ذلك التراب؛ كما لا يخفى.

قوله: {وَالْجَانَّ} أي وخلق الجان وهو أبو الجن، وقيل هو إبليس, وقيل: هو الواحد من الجن.

وعليه فالألف واللام للجنس، والمارج: اللهب الذي لا دخان فيه، وقوله: {مِنْ نَارٍ} بيان لمارج. أي من لهب صاف كائن من النار.

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه تعالى خلق الجان من النار، جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في الحجر: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} وقوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].

وقد أوضحنا الكلام على هذا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير