القول الثاني:
أن فضيلة الجماعة لا تحصل للمأموم إلاَّ بإدراك ركعة مع الإمام، وهذا قول عند المالكية إلاَّ أن ابن رشد الحفيد قيد إدراك الفضيلة بركعة بالمعذور بأن فاته ما قبلها اضطراراً، وذكر أن هذا هو مذهب مالك، وعليه اقتصر أبو الحسن (23) في شرح الرسالة فقال عبد الباقي الزرقاني (24): ومقتضاه اعتماده وتبعه من تبعه حتى ذكروا أن من فرط في ركعة لم يحصل له الفضل.
وقال الشيخ الدردير (25) في النفس منه شيء فإن مقتضاه أن يعيد للفضل وذكر غير واحد أن ما قاله الحفيد مخالف لظاهر الروايات (26).
وممن قال لا تدرك إلاَّ بركعة كاملة الغزالي (27) من الشافعية، وقول عند الحنابلة، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى، واختاره الشيخ تقي الدين، وذكره رواية عن أحمد، وقال: اختاره جماعة من أصحابه، واختاره شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب والشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي وسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (28).
واستدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
الدليل الأول: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أدرك ركعة من الصلاةفقد أدرك الصلاة " متفق عليه (29).
وفي لفظ لمسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة " (30). وفي لفظ له: «فقد أدرك الصلاة كلها».
ووجه الاستدلال: أن الحديث نص في أن الإدراك إنَّما يكون بركعة كاملة، وهذا النص يرفع النزاع (31)، ومفهومه أن من لم يدرك ركعة لم يدرك الصلاة.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " (32).
ووجه الاستدلال من وجهين:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الأحكام بإدراك الركعة فمفهومه أنها لا تدرك بأقل من ذلك.
والثاني: أن قدر التكبيرة لم يعلق به الشارع شيئاً من الأحكام، لا في
الوقت، ولا في الجمعة، ولا الجماعة ولا غيرها فدل على أن ذلك القدر لا تدرك به الركعة (33).
الدليل الثالث: أن الجمعة لا تدرك إلاَّ بركعة كما أفتى به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: ابن عمر، وابن مسعود، وأنس وغيرهم، ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف، وقد حكى غير واحد أن ذلك إجماع الصحابة (34).
الدليل الرابع: القياس على إدراك الركعة فإن من لم يدرك مع الإمام قدراً يحتسب له به كمن أدركه في قيامه من الركوع أو في السجود أو في جلسة الفصل لا يكون بذلك مدركاً للركعة مع أنه أدرك مع الإمام جزءاً من الصلاة لكنه جزء غير محتسب له فكذلك من لم يدرك مع الإمام ركعة لا يكون مدركاً للجماعة لأنه لم يدرك من الصلاة قدراً محتسباً له به (35).
ويُمكن مناقشة هذا الدليل: بأنه لا يسلم أن من لم يدرك الركعة كاملة لم يدرك جزءاً يحتسب له به بل قد أدرك جزءاً محسوباً له وهو تكبيرة الإحرام أتى بها قبل أن يسلم الإمام ولولم تكن محسوبة له للزمه أن يستأنف بعد سلام الإمام.
الدليل الخامس: أن المسافر إذا ائتم بمقيم وأدرك معه ركعة فما فوقها فإنه يتم الصلاة، وإن أدرك معه أقل من ركعة صلاها مقصورة نص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وهذا لأنه بإدراك الركعة قد ائتم بمقيم جزءاً من صلاته، فلزمه الاتمام، وإذا لم يدرك معه ركعة فصلاته صلاة منفرد فيصليها مقصورة (36).
ويُمكن مناقشته: بأنه استدلال بمسألة مختلف فيها (37).
الترجيح: في نظري أن القول الثاني هو الراجح - إن شاء الله -؛ وذلك لأنه قد ورد نص صريح في أن الجماعة إنَّما تدرك بركعة كاملة، ومفهومه أنها لا تدرك بأقل من ذلك، وهو حديث صحيح.
لكن من كان له عذر شرعي وفاتته الجماعة فيحصل له - إن شاء الله - فضل الجماعة وإن لم يدركها.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله وهو صحيح مقيم " رواه البخاري (38).
ولقوله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: " إن في المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلاَّ وهم معكم، حبسهم العذر ".
وفي رواية لمسلم: " إلاَّ شركوكم في الأجر " متفق عليه (39).
ومِمَّنْ أفتى بهذا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، مفتي عام المملكة العربية السعودية (40) سابقاً تغمده الله بواسع رحمته.
¥