لم يكن هناك فارق زمني بين اختيار طالوت زعيماً وبين فصله بالجنود، ولذلك لم تذكر الآية إعلان اتفاق الأتباع على زعامة طالوت، بل جاء مباشرة الفصل بالجنود - الخروج بهم إلى القتال - فإنَّ أخطر ما يواجه الزعامة أن يعيش الأتباع في فراغ من العمل ولو لوقت ضئيل، وأخطر مشاكل الدعوة هو جمع الأتباع دون وجود الخطط المتفق عليها للعمل. ولا بد من تطور العمل؛ لأن الأتباع لا يقنعون إلا بالعمل، ولا يقنعون بعد العمل إلا بعمل أقوى منه.
?قَالَ إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي? [البقرة: 942].
فالابتلاء بالنهر جاء بعد الفصل بالجنود، وهنا يتبين الفهم الصحيح لمرحلة التربية .. أن تكون من خلال الواقع وفي إطار المواجهة والواقع القتالي، وفي هذا الواقع يكون البلاء.
وتأتي حقيقة التوازن بين الصبر على البلاء، والثبات على الحق والطاعة؛ وبين اعتبار الطبيعة البشرية، فكان مقتضى الصبر على الطاعة هو?فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي? [البقرة: 942]. وكان اعتبار الطبيعة هو ?إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِه? [البقرة: 942].
فيدخل في تحقيق التوازن في التربية العدل بين الأتباع؛ لأن الاحتياج إلى الماء سيكون بقدر حجم الجسم، ومعيار حجم الجسم هو حجم اليد، ولذلك كان الأمر بالشرب بغرفة اليد وهو ما جاء في نصِّ الأمر ?إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ? [البقرة: 942].
ولما كان البلاء هنا هو اختبار الاستعداد للموت؛ كانت طبيعة البلاء من جنس طبيعة الهدف منه، فكان الامتناع عن شرب الماء وهو سبب الحياة؛ اختباراً في القدرة على التضحية بهذه الحياة.
?فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ? [البقرة: 942]. وفي ذلك يقول سيد قطب: «شربوا وارتووا؛ فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده، تبلُّ الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف، وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم. انفصلوا عنه؛ لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم. وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف؛ لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة. والجيوش ليست بالعدد الضخم، ولكن بالقلب الصامد، والإرادة الجازمة، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق».
?فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ? [البقرة: 942]. وهذه الآية تناقش أخطر قضايا فقه الدعوة؛ فالذين آمنوا هنا لا تعني كفر من عصى وشرب، لكنها تعني إيمان من أطاع. وهذا هو حدُّ الارتباط بين مصطلح الإيمان وعلاقته بالواقع العملي للدعوة والسمع والطاعة فيها .. أن تكون الطاعة إيماناً دون التكفير بالمعصية، إلا أن تكون المعصية نفسها كفراً. ورغم الطاعة قد يكون الضعف؛ فالطاعة والإيمان يكون معهما معالجة الطبيعة البشرية الضعيفة.
?قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ? [البقرة: 942].والمتكلمون هنا هم الذين آمنوا وجاوزوا النهر والابتلاء به، والذين ثبت استعدادهم للموت.
إنهم لم يصطدموا بالحرص على الحياة، ولكنهم اصطدموا بواقع المواجهة الصعب: نحن مستعدون للموت ولكننا قلة. وتجاوز هذه الظروف يتطلب مستوى أعلى من تجاوز الابتلاء بالنهر. وهنا يظهر أهل النصر عندما يرتفعون بإيمانهم فوق الظروف.
مستوى اليقين بلقاء الله الذي تعرج به النفس فوق مستوى الواقع.
?قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ?
وبهذا التجرُّد يتحقق اليقين في لقاء الله.
?وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ? [البقرة: 152]. وبعد إنشاء الواقع العلمي بأبعاده الكاملة؛ تنشأ معايير الاختيار الشرعية والعملية بصورة طبيعية، والمثال عليها اختيار داود عليه السلام، وذلك أن داود كان فرداً ضمن الذين كانوا مع طالوت، وكان له دور متقدم بين الصفوة مكَّنه من أن يقتل جالوت، فتميز داود بصورة لم تجعل له قريناً، فكان هو الملك بعد طالوت بصورة تلقائية.
¥