وقَتْلُ داود لجالوت هو اختصار لمعنى التجربة كله، وهذا الاختصار مثال منهجي لحقيقة الصراع كما أراده الله، فقَتْلُ داود الفتى الصغير لجالوت ملك العماليق يدل على قدرة الله المطلقة، ولذلك يقول سيد قطب:
«وداود كان فتى صغيراً من بني إسرائيل. وجالوت كان ملكاً قوياً وقائداً مخوفاً .. ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها. وحقائقها يعلمها هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم، ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير؛ ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم .. وكانت هناك حكمة أخرى مُغَيَّبة يريدها الله؛ فلقد قدَّر أن يكون داود هو الذي يتسلَّم الملك بعد طالوت، ويرثه ابنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل؛ جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود.
ونمضي مع القصة؛ فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء، وتستمد قوتها كلها من إذن الله، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله، وأنه مع الصابرين .. إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة الثابتة التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته، مع ضعفها وقلتها .. إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة، بعد أن تجدِّد عهدها مع الله، وتتجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده، وهي تواجه الهول الرهيب ?وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ? [البقرة: 052 - 152] .. هكذا ?رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا? [البقرة: 052] وهو تعبير يصوِّر مشهد الصبر فيضاً من الله يفرغه عليهم فيغمرهم، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالاً للهول والمشقة. ?وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا? فهي في يده - سبحانه - يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد ?وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ? .. فقد وضح الموقف: إيمان تجاه كفر، وحق إزاء باطل، ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين، فلا تَلَجْلُجَ في الضمير، ولا غبش في التصور، ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق.
وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها: ?فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ? .. ويؤكد النص هذه الحقيقة:?بِإذْنِ اللَّهِ? .. ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علماً، وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تُجريه.
إن المؤمنين ستار القدرة يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما يختار .. بإذنه .. ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه .. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين .. إنه عبد الله. اختاره الله».
أما العبرة الكلية من القصة
ففيها يقول سيد قطب:
«العبرة الكلية التي تبرز من القصة كلها هي أن هذه الانتفاضة - انتفاضة العقيدة - على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلِّي القوم عنها فوجاً بعد فوج في مراحل الطريق - على الرغم من هذا كله - فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جداً .. فقد كان فيها النصر والعز والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل والذل تحت أقدام المتسلِّطين».
?تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ?. [البقرة: 252]
إنها تجربة قرآنية في قضية الزعامة، تقدم درساً منهجياً باقياً لأتباع المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
المصدر: مجلة البيان.
المقال للشيخ:رفاعي سرور
منقول من موقع الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي -رحمه الله-
http://www.al-oglaa.com/index.php?section=article&SubjectID=558
ـ[قيس بن سعد]ــــــــ[24 - 10 - 09, 12:40 ص]ـ
عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود! …
أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض! …
إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهما، فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا. فليست الحياة بعد السنين، ولكنها بعداد المشاعر، وما يسميه ((الواقعيون)) في هذه الحالة ((وهما))! هو في ((الواقع))، ((حقيقة)) أصح من كل حقائقهم! … لأن الحياة ليست شيئا آخر غير شعور الإنسان بالحياة. جرد أي إنسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي! ومتى أحس الإنسان شعورا مضاعفا بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلا …
يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال! …
إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!.
¥