لقد أردت الصراحة في هذا الموضوع، ولعل إرادتكم توافق إرادتي موافقةَ شَنٍّ لطبقَه، حين وافقه فعانقه أي معانقة، والشن هو (الإناء) والطبق هو (الغطاء)، ولا أظن الموضوع يحتمل غير الصراحة، لذلك أقول إن من المهم جداً التفريق بين التراجع عن المسألة وبين التراجع عن الخوض في المسألة، أعني أنني لستُ في حديثي في هذا الموضوع في حلقاته مُتراجعاً عن الحق الذي أراه مع فلان من العلماء في إنكاره ورده على عِلاّنٍ من الدعاة أو من العلماء! أو تبيينه باطل ما عليه الجماعات، أو تصنيفه الكتب في دحْر الشرِّ الوافد، أو قتل الشر المنبعث من الداخل، فهذا من الجهاد في سبيل الله بذُبابات الأقلام. وهو من خصائص العلماء وطلاب العلم الكبار.
لكن التراجع هو في خصوص الانشغال بتلك الردود وتقفُّرها لمن هم صغار في العلم مثلي، فلا يصح بحالٍ لمن يجهل أبجديات العلم أن يشغل نفسه بتلك الردود وما قال فلانٌ في فلان، وصرف أوقات العمر في شيءٍ ليس من اختصاصي في هذه المرحلة. هذا الذي أقصده من هذا الموضوع كله.
فالانشغال بتلك المواضيع يا سادة يعني استجابةً لخطوةٍ من خطوات أبي مرة، فالشيطان الرجيم يتدرج معك ويفتل لك في الحبْل والغارب، ويأتيك من هنا ومن هناك لعلك أن تستجيب له، فإن استطاع أن يوقعك في الشرك وإلا ففي البدع وإلا ففي الكبائر من الذنوب وإلا ففي الصغائر وإلا ففي المباحات وإن عجز أشغلك بالمفضول عن الفاضل، فإن أطعتَه واشتغلت بالمفضول عن الفاضل أعاد الكرّة في خطواته تلك رجوعاً إلى المباحات وهكذا إلى أن يصل إلى الشرك ..
لقد كانت أربعة عشر عاماً محصورةً في مسائل معدودةً محدودة، أقوال فلانٍ في فلان، وتجاوزات فلانٍ في هذا الباب، وتزكيات فلانٍ لفلان، وجديد فلانٍ وعِلاّن، وردٌ جديدٌ على فلان، وجوابٌ عن رد فلانٍ على عِلاّن! سامحوني لقد صُمّت آذانُكم من مادة (فَلَنَ)، ولكن لا بد مما لا بد منه، فلا أريد التصريح بالأسماء، وكلكم لا يجهلها.
أربعة عشر عاما تساوي أربعين يوماً بعد الخمسة آلاف يومٍ، الله الله! لو أنْ قُدِّر لي أن أحفظ في كل يوم آيةً وحديثاً ومسألة علمية مما يعني المسلم لكنت اليوم أسعد من سعيد، يعني هذا أنني حويتُ القرآن بين جنْبيَّ وصحيح البخاري وصحيح مسلم و5040 مسألة علمية شرعية، بخٍ بخْ، ربح العمرَ من عمل هذا.
ولكن، يا لحسرتي وخيبتي! حويت أقوال فلانٍ وأنفاسه لأردّ عليه! واستوعبتُ رسائل فلانٍ وردوده لأُدافع عنه، وما أغنتْ عني تلك الأقوال والأنفاس والرسائل والردود، فهل تستطيع تلك بمجموعها أن تُعيد لي ما سرقتْه من سِنيِّ عمري! سرقتْ مني أعزّ ما أملِك، سرقتْ مني زادي إلى الدار الآخرة، أترون يا سادة زاداً مثل السنين والأعوام!
لكن ..
ما فات مات والمؤمّل غيبٌ ... ولك الساعة التي أنت فيها
لقد أفقتُ بعد أربعة عشر عاماً على حقيقة مرّة، جاء بها الدليل الساطع والبرهان القاطع على بساط الهُدى، وقف الدليل بمحاذاة كتفي الأيمن من أمامي ووقف البرهان بمحاذاة كتفي الأيسر من خلفي، وبدآ يتناوبان في سؤالي وأنا بينهما لا أحار جواباً، مرةً يأخذني هذا إلى جهتَه ويسألني ومرةً يأخذني ذاك إلى جهته ويسألني:
ما فائدة ما أنت فيه؟
هل مضيتَ في العلم عُمُراً؟
هل حويتَ ما لا يسع المسلم جهلَه؟
هل فرضُ عينٍ أم فرض كفايةٍ ما أنت فيه؟
ما هي شروط الوضوء؟
زوجتُك تسألك هل ما هي فيه دمُ حيضٍ أم استحاضة؟
ثم ..
هل اتقيت الله في ردّك؟
هل يجيز الشرع سُخريتك بهذا المسلم وإن أخطأ؟
لعلك وصلتَ إلى كبيرة الغيبة في ذِكرك لفلانٍ المخطيء؟
أتعرف حدود ما يجوز لك في ذكرك لأخيك؟
أتعرف فقه الأولويات؟
هل ..
هل ..
هل ..
أصابني الدُّوار بهذا الكم الهائل من الأسئلة التي في بعضها لم أجد جواباً، وفي بعضها وجدتُ جواباً ضدي، وفي البعض الثالث وقفتُ على خسارتي، ثم سقطتُ أرضاً، وما أتذكر إلا عصافير الحسرة وهُنّ يُحلِّقْن فوق رأسي!
أفقتُ وفتحت عينيّ وإذا بهما لا زالا واقفين عن يميني وشمالي، ناولتُهما يديّ فأخذا بضَبْعي، وجئتُ أتوكّأ عليهما حتى وصلتُ إليكم وقرعتُ بابكم، فهل من معتبر!
¥