ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[10 - 12 - 09, 08:24 م]ـ
و لا يغرنّك قول من يرتب حفظ المتون (المنظومة) على الترتيب التالي:
البيقونية ثم قصب السكر ثم اللؤلؤ المكنون ثم الألفية، أو ما شابه ذلك.
فإن هذا الترتيب واردٌ على القراءة والدرس والشرح، وليس وارداً في الحفظ، وإلا كان ذلك تشويشاً على طالب العلم.
حياك الله يا شيخنا الفاضل، وأرجو أن تأخذ كلامي بصدر رحب، فإن مقصودنا جميعا الفائدة إن شاء الله تعالى.
قد يقال: لماذا كان ذلك واردا على القراءة والدرس والشرح دون الحفظ؟
ألا يمكن أن يقال: إن الطالب يدخل في ألفية العراقي وشروحها مباشرة؟!
فإن قيل: لا بد من التدرج في الدرس لأجل أنه مبتدئ؛ قيل: وكذلك لا بد من التدرج في الحفظ لأجل أنه مبتدئ ولا يمكن أن ينصح المبتدئ بحفظ ألفية العراقي مباشرة.
وإن قيل: هذا يحصل منه التشويش في الذهن، قلنا: وكذلك قراءة عدة كتب في الفن الواحد يحدث تشويشا في الذهن، فإن قيل: القراءة لا تشوش، قيل: وكذلك الحفظ لا يشوش.
وإن قيل: القراءة لا تستغرق وقتا طويلا بخلاف الحفظ، قيل: فليترك الحفظ جملة وليكتف طول عمره بالقراءة، فإن قيل: لا بد من الحفظ، قيل: وكذلك لا بد من التدرج في الحفظ.
وإن قيل: الحفظ يراد لتثبيت المعلومة وهذا يكفي فيه متن واحد، قيل: والقراءة أيضا تراد لمعرفة المعلومة وهذا يكفي فيه المطولات دون المختصرات.
فالحاصل أن التفريق بين الدرس والحفظ لا يستقيم، وكل ما يورد على الحفظ فهو وارد على الدرس.
وكذلك قولُ من يقول إنك مبتدئ وعليك حفظ المتون الصغيرة.
أقول ذلك أيضاً وارد في القراءة والدرس وليس الحفظ، فإنك تصرف وقتاً في حفظ تلك مرتبة، ثم تصرف وقتاً مضاعفاً في مراجعتها، ثم تتفاجأ بتداخلها في ذهنك، ولو صرفت نصف الوقت لحفظ الألفية وضبطها ضبطاً جيداً ثم لأخذ ما زاد عليها مما ليس موجوداً فيها لخرجت بعلم متينٍ راسخٍ في هذا الفن لا يتزعزع ولا يتشوش.
وكم رأينا من ذهب عمره في العمل بمثل تلك النصائح، وغيره قد سبقوه بحفظ عُمَد الفن وتركوا ما سواه، ولا يستويان عند المقارنة.
يا شيخنا الفاضل، هذا قد يصلح مع بعض الأشخاص، لكن هل يصح تعميمه؟
ويمكن أن يقال في عكس ذلك: وكم قد رأينا من ظل يدرس ويدرس من غير حفظ، وعندما وصل إلى الوقت الذي يُطالب فيه بالحفظ شعر بضيق شديد في صدره لأنه لم يعتد الحفظ منذ الصغر، فترك الحفظ وراح يسب ويلعن فيمن يحفظون، ويهجو الحفظ ويتهم الحفظة بأنهم حمير لا يفهمون.
وإن لم يبلغ هذه المرتبة فقد نراه ييأس من التحصيل لصعوبته على نفسه فيترك الطلب جملة.
وقد نراه يعلو على كبار المسائل من غير أن يتقن صغارها، ويظن أنه إن أحسن بعض المسائل الكبيرة فقد صار يناطح العلماء، مع أنه لا يحسن صغارها!
ثم إن هذا غير منطبق على الواقع؛ فإن الثابت بالتجربة المطردة عند كثير من طلبة العلم أن من يحفظ متنا صغيرا ثم متنا متوسطا ثم متنا مطولا، يستغرق وقتا أقل من الذي يحفظ فقط المتن المطول مباشرة، وإن لم تصدقني فاسأل الحفاظ من أهل المغرب وشنقيط والصومال وإثيوبيا والهند وغيرهم.
ثم إن المسألة ليست مسألة وقت فقط، بل المهم في هذا الباب هو ترسيخ مسائل العلم في ذهن الطالب، وهذا لا يحصل إلا بعدة متون متدرجة، ويمكنك أن تجرب هذا بسؤال من يحفظ ألفية العراقي وحدها، فإنه لن يستطيع في كثير من الأحيان أن يفرق بين ما يصلح من المسائل للمبتدئين وما يصلح للمتقدمين؛ لأنها كلها عنده باب واحد.
ولذلك تجد أمثال هذا إن طلب منه بعض الإخوة أن يعطيهم دروسا للمبتدئين لم يستطع أن يفعل ذلك!! فتراه يطيل ويتكلم عن دقائق المسائل، وهذا نراه كثيرا في بلادنا.
ثم إنه لا يلزم من حفظ عدة متون في الفن الواحد حصول التشويش في ذهن الطالب، بل قد يحصل العكس وهو رسوخ المعلومة ووضوحها أكثر، فمثلا إذا حفظ الطالب قول الشيخ ابن سعدي رحمه الله:
وكل مشغول فلا يشغل ........... مثاله المرهون والمسبل
ثم حفظ بعد ذلك قول الشيخ ابن عثيمين:
وكل مشغول فليس يشغل ........... بمسقط لما به ينشغل
فإن هذا يزيده علما وتوضيحا للمسألة؛ لأن الشيخ ابن سعدي عمم القاعدة وأعطى مثالين عليها، أما الشيخ ابن عثيمين فلم يعط مثالا لكنه ضيق القاعدة بضابط مهم.
وكثيرا ما نرى في المتون المختصرة فوائد لا نجدها في المتون المطولة؛ لأن المتون المختصرة يراعى فيها عادة تفهيم الطالب المبتدئ فتجدها أحيانا توضح أشياء لا يلتفت إليها أصحاب المتون المطولة لوضوحها، فمثلا: ماذا قال ابن مالك عن تعريف النكرة؟
نكرة قابل (أل) مؤثرا .............. أو واقع موقع ما قد ذكرا
وهذا كلام غير واضح ويصعب الاستشهاد به، فانظر إلى هذا ثم انظر إلى ما قاله ابن آب في نظم الآجرومية:
وإن تر اسما شائعا في جنسه ............. ولم يعين واحدا في نفسه
فهو المنكر ومهما ترد ............. تقريب حده لفهم المبتدي
فكل ما لألف واللام ............. يصلح كالفرس والغلام
فهل تغني الألفية عن مثل هذا؟ وكذلك قول ابن مالك:
والخبر الجزء المتم الفائدة ............ كالله بر والأيادي شاهدة
غير محرر، وأفضل منه قول ابن آب:
والخبر الجزء الذي قد أسندا ............ إليه وارتفاعه الزم أبدا
ولو طولب شخص بإعطاء تعريف مختصر للحديث الحسن لما كان بإمكانه أن يذكر ذلك من ألفية العراقي؛ لأنه أطال فيه ولم يلخص الراجح في بيت، أما لو ذكر بيت البيقوني:
والحسن المعروف طرقا وغدت ............ رجاله لا كالصحيح اشتهرت
لكانت إجابته مناسبة.
وهكذا تجد المتون المتدرجة في كل العلوم.
وحتى لو سلم حصول التشويش في ذهن بعض الناس، فبإمكان صاحبه أن يهجر أحد الموضعين ويركز على الآخر.
والله تعالى أعلى وأعلم.
¥