تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[مكتبتي ...]

ـ[العوضي]ــــــــ[11 - 12 - 09, 08:29 ص]ـ

مكتبتي::

يرى بعض الناس زينة البيت في غرفة الاستقبال الفسيحة التي تصطف على جوانبها الأرائك الفاخرة، وتضطجع على أرضها البُسُط العجمية الرفيعة، وتتدلى من سُقُفها الثريات الضخمة المتلألئة بمئات الشموع الكهربية.

وبعضهم يرى زينة البيت في غرفة النوم الأنيقة، ذات الأثاث الراقي المطبوع بلمسات الفنان المبدع، والفراش الوثير الناعم، الذي يغوص فيه صاحبه، فيغري أجفانه بالنوم اللذيذ، ويحلّق به في جو من الأحلام الوردية الممتعة.

والمولعون بهواية الأكل، المفتونون بشهوة بطونهم، يرون زينة البيت في المطبخ الذي يعطر أركان البيت برائحة الطعام الفواحة، ويتيح لأهله حرية المزاولة لهوايتهم المفضلة، ويمنح بطونهم المتعة التي لا تعدلها متعة عندهم في الحياة.

أما أنا فزينة البيت عندي مكتبته التي يرتفع رفها أو أرففها في شموخ وكبرياء، ولو كانت مصنوعة من خشب متواضع، أو حديد صدئ، وتتكدس كتبها في كل ركن منها، ولو أوحى منظرها بالفوضى وسوء الترتيب والنظام، ويتسع ضيقها في الصدر، ولو كانت مساحتها أمتارًا مربعة لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة.

وإذا خلا بيت من مكتبة - مهما صغرت - كان في نظري كالبيت المبني في مقبرة يلفّه سكون الموت من كل مكان، أو كالكهف القديم المهجور يتردد صدى الوحشة من كل زواياه. ولا يمكن عندي أن يملأ فراغ المكتبة شيء آخر، ولو كان البيت قصرًا من قصور الرشيد الأسطورية، ولا يغني عنها بديل ولو كان بديلاً غارقًا في الرخاء، سابحًا في الترف.

حتى أولئك الذين يتخذون المكتبة في بيوتهم مظهرًا للتباهي ومجاراة لغيرهم وتقليدًا، ويصفُّون كتبها المجلدة ذات الألوان المختلفة لتعطي المنظر البديع الذي يزين ركنها، أو لتحدث الانسجام والتناغم مع بقية أثاث البيت ومحتوياته - أبارك صنيعهم، ولو كانوا أميين لا يفكون خطًّا، فقد يخرج من أصلاب هؤلاء من يعرف للمكتبة قدرها، وينفض عنها غبارها، ويحرر كتبها من سجنها، ويغترف من خيرات منابعها. وقد يجد فيها قريب من أقربائهم، أو صديق من أصدقائهم، أو زائر من زوارهم - ضالته من كتاب , أو حاجته من مرجع. وقد تستيقظ الأريحية في نفس صاحبها الأمي قبل أن يودع الدنيا، وتدفعه الرغبة في أن يكون له ذِكْر طيب بعد رحيله، فيجعل المكتبة وقفًا يصل إليه ثوابه بعد موته، وصدقة جارية يقدِّم بها نورًا بين يديه. وهكذا يؤجر المرء على رغم أنفه، وقد يفعل شيئًا لغير الله فيأبى [الله] إلا أن يكون لله.

والمكتبة في كل الأحوال لا يهمها إلا أن تضيء وتشع، ولا شأن لها بعد ذلك بمن يقتبس الضياء، ويستقبل الأشعة، ولا تميز إن كان المقتبس أو المستقبل من أهل البيت أو من غيرهم، كالشمس تؤدي وظيفتها اليومية في رتابة، وتوزع أشعتها على الدنيا بالعدل، ثم لا يبطرها من يتعرض لضوئها فيستفيد، ولا يضيرها من يهرب منها إلى الظلام فيحرم خيرًا كثيرًا.

تلك مكانة المكتبة - كما أرها - في بيوت الناس جميعًا.

أما مكتبتي فلي معها شأن خاص، وعلاقتي بها علاقة حب قديمة، تضرب بجذورها في أعماق عمري، وترجع بدايتها الأولى إلى زمن طفولتي الغض، حيث غرست نواة مكتبتي في صندوق شاي صغير وأنا ابن عشر سنين، وكانت نواة مباركة متمثلة في مصحف شريف ذي أرباع برواية ورش عن نافع ورثته عن والدي - رحمه الله! - وكتاب قديم أو كتابين.

وأخذَت المكتبة تنمو في سِنيها الأولى ببطء شديد لضيق ذات اليد كما ينمو طفل وليد يشكو من سوء التغذية، أو كما تنمو بذرة لم تُهيَّأ لها التربة بالسماد والماء الكافي، ثم توقفت عن النمو البطيء في سنوات القحط التي أجهدت البلاد والعباد في أواسط الأربعينات، تلك السنون التي مرت عصيبة كئيبة كما تمر سكرات الموت، أو هي الموت نفسه، ثم أدركت الناس رحمة الله، فدبت في مكتبتي نفحة من الحياة كما دبت في الأرض الميتةالجافة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير