قال ابن عبد البرِّ رحمه اللهُ في كتاب "جامع بيان العلم", بعد أن روى هذا الحديثَ من عِدَّةِ طرقٍ ذكرها: "قد أجمع العلماءُ على أنَّ من العلمِ ما هو فرضٌ متعيَّنٌ على كلِّ امرئٍ في خاصَّة نفسِه, ومنه ما هو فرضٌ على الكفايةِ إذا قام به قائمٌ سقط فرضُه عن أهلِ ذلك الموضعِ, واختلفوا في تلخيصِ ذلك.
والذي يلزم الجميعَ فرضُه من ذلك: ما لا يسعُ الإنسانَ جهلُه من جُملةِ الفرائضِ المفترَضةِ عليه, نحو: الشهادةُ باللسانِ والإقرارُ بالقلب بأنَّ الله وحده لا شريك له, ولا شِبْهَ له ولا مِثْلَ, لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كُفُوًا أحدٌ, خالقُ كلِّ شيءٍ, وإليه مرجعُ كلِّ شيءٍ, المحيي المميتُ, الحيُّ الذي لا يموتُ.
والذي عليه جماعةُ أهلِ السنةِ أنه لم يزل بصفاتِهِ وأسمائِهِ, ليس لأوَّليَّته ابتداءٌ, ولا لآخريتِهِ انقضاءٌ, وهو على العرشِ استوى.
والشهادةُ بأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم عبدُهُ ورسولُهُ, وخاتمُ أنبيائِهِ, حقٌّ, وأنَّ البعثّ يغد الموتِ للمجازاةِ بالأعمالِ, والخلودَ في الآخرة لأهلِ السعادةِ بالإيمانِ والطاعةِ في الجنةِ, ولأهلِ الشقاوةِ بالكفرِ والجحودِ في السعير حقٌّ, وأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ, وما فيه حقٌّ من عند اللهِ يجب الإيمانُ بجميعِهِ واستعمالِ مُحْكَمِهِ, وأنَّ الصلواتِ الخمسَ فرضٌ, ويلزمه من علمها علمُ ما لا تتمُّ إلا به من طهارتها وسائرِ أحكامها, وأنَّ صومَ رمضان فرضٌ, ويَلْزَمُهُ علمُ ما يُفسِدُ صومَه وما لا يتمُّ إلا به, وإن كان ذا مالٍ وقدرةٍ على الحجِّ لزمه فرضًا أن يعرف ما تجب فيه الزكاةُ ومتى تَجِبُ وفي كم تجبُ, ويلزمه أن يعلم بأنَّ الحجَّ عليه فرضٌ مرَّةً واحدةً في دهرِهِ إن استطاع إليه سبيلاً, إلى أشياءَ يلزمُهُ معرفةُ جُمَلِهَا ولا يُعذر بجهلها, نحو: تحريمُ الزنا والربا, وتحريمُ الخمرِ والخنزيرِ وأكلِ الميتةِ والأنجاسِ كلِّها والغَضْبِ والرِّشوةِ على الحكمِ والشهادةِ بالزُّورِ وأكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ وبغيرِ طِيبٍ من أنفسِهم إلا إذا كان شيئًا لا يُتَشَاحُّ فيه ولا يُرْغَبُ في مِثْلِهِ, وتحريمُ الظُّلْمِ كلِّه, وتحريمُ نكاحِ الأمهاتِ والأخواتِ ومَنْ ذُكر معهنَّ, وتحريمُ قتلِ النفسِ المؤمنةِ بغيرِ حقٍّ, وما كان مثلَ هذا كلِّه مما قد نطقَ الكتابُ به وأجمعت الأمةُ عليه.
ثم سائرُ العلمِ وطلبِه والتفقُّهِ فيه وتعليمِ الناسِ إياه, وفتواهم به في مصالحِ دينهم ودنياهم فهو فرضٌ على الكفايةِ يلزم الجميع فرضُه, فإذا قام به قائمٌ سقط فرضُه عن الباقين, لا خلافَ بين العلماءِ في ذلك, وحجَّتُهُم فيه قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
فألزم النفيرَ في ذلك البعضَ دون الكلِّ, ثم ينصرفون فيعلِّمون غيرهم, والطائفةُ في لسانِ العربِ: الواحدُ فما فوقه" (7).
وقد ساق ابن قدامة رحمه اللهُ حديثَ أنسٍ رضي الله عنه في فرضيةِ طلبِ العلمِ, ثم قال: "قال المصنِّفُ رحمه الله تعالى: اختلف الناسُ في ذلك:
فقال الفقهاءُ: هو علمُ الفقهِ؛ إذ به يُعرف الحلالُ والحرامُ.
وقال المفسِّرون والمحدِّثون: هو علم الكتابِ والسنَّةِ؛ إذ بهما يُتَوَصَّلُ إلى العلومِ كلِّها.
وقالت الصوفيةُ: هو علمُ الإخلاصِ وآفاتِ النفوسِ.
وقال المتكلِّمون: هو علمُ الكلامِ.
إلى غير ذلك من الأقوالِ التي ليس فيها قولٌ مَرْضِيٌّ, والصحيحُ أنَّه: علمُ معاملةِ العبدِ لربِّه.
والمعاملةُ التي كُلِّفَهَا (العبدُ) على ثلاثةِ أقسامٍ: اعتقادٌ, وفعلٌ, وتركٌ.
فإذا بَلَغَ الصبيُّ, فأولُ واجبٍ عليه تُعُلُّمُ كلمتي الشهادةِ وفهمُ معناها وإن لم يحصل ذلك بالنظرِ والدليلِ, لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اكتفى من أجلافِ العربِ بالتصديقِ من غيرِ تعلُّمِ دليلِ, فذلك فرضُ الوقتِ, ثم يجب عليه النظرُ والاستدلالُ (8).
¥