[هم رجال ونحن رجال!]
ـ[عصام البشير]ــــــــ[20 - 06 - 10, 01:44 ص]ـ
[هم رجال ونحن رجال!]
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعدُ:
فإن للشيطان مداخلَ عجيبة ينفذ بها إلى بواطن النفس البشرية، ليصرفها عن حق، أو يرميها في حضن باطل.
وهو – عياذا بالله منه – منذ أن تبوأ مقعد عمل الغواية والإضلال، الذي وُكل به، يصد لكل نوع من النفوس ما يلائمها من أسباب الإعراض عن الحق، فيعد للصالحين غير ما يعد للطالحين، ويُغوي أهل العلم بغير ما يغوي به أهل الجهل، وهلم جرا.
إنها معركة قديمة، جمع لها إبليس جراميزه منذ زمن بعيد، ثم هو بعدُ ماض في مهمته لا يغره نصر يحصله، ولا تُكرثه هزيمة يتردى بها. أما خصومه في هذه المعركة، فما بين معد للأمر عدته، وجامع له أهبته؛ وبين غافل عما يراد به، مترد في الأحابيل التي ينصبها له عدوه.
ولستُ أعرف في الشراك التي ينصبها إبليس لأهل العلم، أشد نكاية فيهم، وأعظم أثرا في طبائع نفوسهم، من الغرور الذي يزينه لهم، فينتفخون به انتفاخ الكرة التي يلعب بها الصبي، لا تزال معه حالَ انتفاخها في محنة من الضرب بين الأرجل العابثة.
وأي محنة هي أعظم من محنة ذاك المنتفخ بغير ما ينفع، المزهو بغير ما يملك، المتشبع بما لم يعط، حين يتقدم الصفوف، ويتصدر المجالس، والعيون محدقة في سحنته البهية، والأسماع مصيخة إلى ما سيفوه به من الكلمات الشجية، والقلوب متعلقة بما سيأتي به من البراهين الجلية؛ وهو جالس أمام القوم، يخترع الكلام اختراعا، ويبتدع الأفكار ابتداعا، ويصول في حمى العلم ويجول، وهو يعلم في قرارة نفسه أنه أفرغ من فراغ، وأذل من فقع قرقرة بقاع!
هذه محنته ..
أما محنة السامعين – إن كانوا ممن بقي لهم بقية من فهم أو صبابة من فطنة – فكمحنة المسجون حين يلقى به في زنزانة مظلمة، فهو ينتظر موعد الخروج بأقصى ما يكون من الشوق!
...
وآفة الغرور لا تقوم في النفس إلا على ركن من الجهل ركين. فالعلم ينفي الغرور كما ينفي الكير خبث الحديد. وقد قيل قديما: العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول: تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني: تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث: علم أنه ما يعلم.
وقد أحسن من قال:
العلم حرب للفتى المتعالي = كالسيلِ حرب للمكان العالي
فالعلم والكبر ندّان لا يجتمعان، وما دخل العلم قلبا إلا خرج منه من الكبر بمقدار ما دخل من العلم.
والسبب في التعارض بين هذين واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار. فإن العلم يُري صاحبه من أحوال العلماء السابقين، وسعة دائرة علومهم، وعجيب دقة فهومهم، ما يجعله ينزل من برجه الذي كان يتأهب للصعود عليه، ويحثه على ملازمة منزلته التي تلائمه حقا، وحفظ منزلة هؤلاء العلماء المتقدمين، كما يكون البقل في أصول النخل الطوال.
وإن العلم أيضا ليتشعب بصاحبه، فلا يكاد يتقن فرعا حتى يعرض له غيره، ولا يكاد يفهم أصلا حتى يواجهه سواه. ولا يزال متنقلا في حياض العلم، من ساقية إلى نهر، ومن نهر إلى بحر، حتى يوقن أن إدراك الغاية القصوى من هذا العلم الذي هو بصدده، حلم لا سبيل إليه؛ وإنما قصاراه السير في الطريق، وجمع ما أمكنه من الثمار.
فكيف يغتر بعد ذلك من خاض هذا الخضم؟
وما أشبه حال المتعلم بحال المغامر الذي يتلمس سبيله في وسط غابة كثيرة الأشجار، ملتفة النباتات، وبيده مدية كبيرة يفتح بها الطريق أمامه. لكنه لا يقطع غصنا إلا ظهرت أمامه أغصان لا تتناهى كثرة، فمتى يقول إنه وصل غايته؟!
...
والغرور يحمل صاحبه على وقف مسيرة التعلم، والاكتفاء بما حصله من العلم – ولو كان قليلا.
وإذا كان – بحسب ما يدعيه – قد وصل إلى هذه المرتبة العلمية المنيفة، وتسنم هذه المكانة الفكرية الباذخة، ففيم يجهد نفسه في التحصيل العلمي، الذي لا يليق بزعمه إلا بالمبتدئين؟
وكم تضيع على هؤلاء المغرورين من العلوم والمعارف!
وأعرف منهم من لا يفتح الكتاب إلا لماما، ولا يثني ركبته في مجلس علم مطلقا؛ وهو بعدُ دائم التنقل من محاضرة إلى ندوة، ومن برنامج إذاعي إلى لقاء بقناة تلفزية، يجتر الكلام نفسه، ويتلفظ معادا من القول مكرورا.
فهي دائرة مغلقة إذن: جهل يجر إلى غرور، وغرور يجر إلى جهل!
¥