الإمام الجليل أبو بكر القفال الصغير، شيخ طريقة خراسان، وإنما قيل له "القفَّال" لأنه كان يعمل الأقفال في ابتداء أمره، وبرع في صناعتها، حتى صنع قفلاً بآلاته ومفتاحه وزن أربع حبات، فلما كان ابن ثلاثين سنة أحس من نفسه ذكاء؛ فأقبل على الفقه، فاشتغل به على الشيخ أبي زيد وغيره، وصار إمامًا يُقتدى به فيه، وتفقه عليه خلقٌ من أهل خراسان، وسمع الحديث، وحدَّث وأملى ....
انظر "طبقات الشافعية" للسبكي (5/ 54)
2. أصبغ بن الفرج، مفتي الديار المصرية في زمانه، ومن علماء المالكية.
قال الذهبي (رحمه الله):
الشيخ الإمام الكبير، مفتي الديار المصرية، وعالِمها، أبو عبد الله الأموي مولاهم، المصري، المالكي.
مولده بعد الخمسين ومئة.
وطلب العلم وهو شاب كبير، ففاته مالك، والليث.
"سير أعلام النبلاء (10/ 656) "
3. عيسى بن موسى غنجار، أبو أحمد البخاري، محدِّث ما وراء النهر.
قال الحاكم:
هو إمام عصره، طلب العلم على كبر السنِّ، وطوَّف.
"شذرات الذهب (1/ 330) "
4. قاضي القضاة بمصر: الحارث بن مسكين، توفي سنة 250 هـ.
قال الذهبي (رحمه الله):
وإنما طلب العلم على كبَر.
" سير أعلام النبلاء (12/ 54) "
وغير هؤلاء كثير، وقد ذكر في طلب غير هؤلاء وهم كبار في السن كأمثال الفضيل بن عياض، وابن العربي، وابن حزم، والعز بن عبد السلام، فلم يمنعهم سنهم من الطلب حتى صاروا نجومًا في سماء العلم.
قيل لعمرو بن العلاء: هل يحسن بالشيخ أن يتعلم؟
قال: إن كان يحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم!!
وهذا ابن عقيل -رحمه الله- يقول: إني لأجد من لذة الطلب وأنا ابن ثمانين أشد مما أجد وأنا ابن أربعين.
ثالثًا:
وهذه فتاوى ووصايا بعض العلماء في الموضوع نفسه:
1. سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين (رحمه الله):
بماذا تنصح من بدأ في طلب العلم على كبَر سنِّه؟ وإن لم يتيسر له شيخ يأخذ منه ويلازمه فهل ينفعه طلب العلم بلا شيخ؟
فأجاب:
نسأل الله تعالى أن يعين من أكرمه الله بالاتجاه إلى طلب العلم، ولكن العلم في ذاته صعب يحتاج إلى جهد كبير؛ لأننا نعلم أنه كلما تقدمت السن من الإنسان زاد حجمه، وقل فهمه، فهذا الرجل الذي بدأ الآن في طلب العلم ينبغي له أن يختار عالمًا يثق بعلمه ليطلب العلم عليه؛ لأن طلب العلم عن طريق المشايخ أوفر، وأقرب، وأيسر، فهو أوفر؛ لأن الشيخ عبارة عن موسوعة علمية، لا سيما الذي عنده علم نافع في النحو، والتفسير، والحديث، والفقه وغيره، فبدلاً من أن يحتاج إلى قراءة عشرين كتابًا يتيسر تحصيله من الشيخ، وهو لذلك يكون أقصر زمنًا، وهو أقرب للسلامة كذلك؛ لأنه ربما يعتمد على كتاب ويكون نهج مؤلفه مخالفًا لنهج السلف سواء في الاستدلال أو في الأحكام.
فننصح هذا الرجل الذي يريد طلب العلم على الكبر أن يلزم شيخًا موثوقًا، ويأخذ منه؛ لأن ذلك أوفر له، ولا ييأس، ولا يقول بلغت من الكبر عتيًّا؛ لأنه بذلك يَحرم نفسه من العلم.
وقد ذُكر أن بعض أهل العلم دخل المسجد يومًا بعد صلاة الظهر فجلس، فقال له أحد الناس: قم فصل ركعتين، فقام فصلى ركعتين، وذات يوم دخل المسجد بعد صلاة العصر فكبَّر ليصلي ركعتين فقال له الرجل: لا تصلِّ فهذا وقت نهي، فقال: لا بد أن أطلب العلم، وبدأ في طلب العلم حتى صار إمامًا، فكان هذا الجهل سببًا لعلمه، وإذا علم الله منك حسن النية ومنَّ عليك بالتوفيق؛ فقد تجمع من العلم الشيء الكثير.
"كتاب العلم - السؤال رقم 63"
2. وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين (حفظه الله):
يعتذر البعض عن طلب العلم بحجة كبَر السن، وفوات وقت الطلب، ويعتذر آخرون بكونهم لا زالوا صغارًا ينتظرون أن يتقدم بهم العمر؟
فأجاب:
متى تيسر للمسلم التعلم والتفقه؛ لزمه ذلك، ولا يجوز الاعتذار عن التعلم بتقدم السن؛ فإن الكثير من الصحابة تعلموا وهم شيوخ، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، والعباس، وابن عوف، وأبي عبيدة، وغيرهم، ثم من علماء التابعين من تعلموا في الكبر، كصالح بن كيسان، فقد أدرك ابن عمر وابن الزبير وتتلمذ على الزهري وطال عمره فمات سنة 140 هـ، ولما كان طلب العلم قد يكون واجبًا على المسلم لم يخرج عن ذلك الكبير، ولا الصغير، وقد روي عن مكحول مرسلاً: "لا يستحي الشيخ أن يتعلم من الشاب"؛ أي: لأن بقاءه على الجهل نقص وعيب، وليس في تعلمه من الصغار غضاضة.
وأما الشاب: فعليه التعلم في حداثته؛ فإن ذلك أقوى لمعلوماته، فقد قال الحسن (رحمه الله): "طلب الحديث في الصغر كالنقش في الحجر"، وروي عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: "تعلموا العلم فإنكم إن تكونوا صغار قومٍ تكونوا كبارهم غدًا"، وقال الزهري: "لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر -رضي الله عنه- إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم"، وأيضًا: فإن الشاب عنده وقت فراغ، ولا يدري ما يحدث بعده من العوائق.
" كيف تطلب العلم - السؤال رقم 43 - من موقع الشيخ"
لذا، بادر أخي الفاضل لطلب العلم، ولا يمنعنك سنك، وقد سبقت نماذج طلبوا العلم بعد سنك هذا بزمن، واحرص على الإخلاص، واجعل طلبك للعلم بنية التقرب إلى الله، وأداء الواجب الذي أوجبه الله عليك في الطلب، واقصد بعلمك رفع الجهل عن نفسك، ثم ساهم في رفع الجهل عن الناس، وجد واجتهد في الطلب، واحرص على مشايخ أهل السنة والجماعة، الزمهم، وخذ علمهم، وإياك وأهل البدعة والضلالة، واسأل ربك أن يوفقك، وأن يسهل لك الطلب والحفظ والفهم.
والله أعلم
¥