وركبنا البحر ثم مشَيْنا وكانت الريح في وجوهنا، فبقِينا في البحر ثلاثة أشهر! وضاقت بنا صدورنا، وفنيَ ما كان معنا من الزاد، وبقيت بقية، فخرجنا إلى البر، فجعلنا نمشي أيامًا على البر، حتى فني ما كان معنا من الزاد والماء!.
فمشَيْنا يومًا وليلة لم يأكل أحد منا شيئًا ولا شربنا، واليومَ الثاني كمثله، واليومَ الثالث، كلَّ يوم نمشي إلى الليل، فإذا جاء المساء صلينا وألقينا بأنفسنا حيث كنا، وقد ضعفت أبداننا من الجوع والعطش والعَياء، فلما أصبحنا اليومَ الثالث جعلنا نمشي على قدْر طاقتنا، فسقط الشيخ المَرْوَرُوذِيُّ مغشيًّا عليه، فجئنا نحركه وهو لا يعقل، فتركناه! _ لأنهما لو بقيا معه لهلكوا جميعًا _.
ومشَيْنا أنا وصاحبي النيسابوريُّ قَدْر فرسخ أو فرسخين، فضَعُفتُ وسقطت مغشيًّا علي، ومضى صاحبي وتركني!
فلم يزل هو يمشى إذ بَصُر من بعيد قومًا قد قَرَّبوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى صلى الله عليه وسلم _ وهو مكان هناك معروف _، فلما عاينهم لوَّح بثوبه إليهم، فجاؤوه معهم الماء في إداوة، فسقَوْه وأخذوا بيده، فقال لهم: الحَقُوا رفيقين لي قد ألقَوْا بأنفسهم مغشيًّا عليهما، فما شعرت إلاَّ برجُل يصُب الماء على وجهي، ففتَحتُ عينيَّ فقلت: اسقني، فصب من الماء في رَكْوةٍ _ أو مَشْرَبة _ شيئًا يسيرًا، فشربت ورجَعتْ إليَّ نفسي، ولم يُرْوِني ذلك القدْرَ، فقلت: اسقني. فسقاني شيئًا يسيرًا _ لأنه لو سقاه شيئًا كثيرًا لأضره _ قال: وأخذ بيدي.
فقلت: ورائي شيخ ملقًى! قال: قد ذهب إلى ذاك جماعة، فأخذ بيدي وأنا أمشي أجُرُّ رِجليَّ، ويسقيني شيئًا بعد شيءٍ، حتى إذا بلغتُ إلى سفينتهم، وأتَوْا برفيقي الثالث الشيخ، أحسنَ إلينا أهل السفينة، فبَقِينا أيامًا حتى رجعت إلينا أنفسُنا.
ثم كتبوا لنا كتابًا _ أي: كتاب توصية _ إلى والي _ أو أمير _ مدينة يقال لها: "راية" _ في مصر الجنوبية _ وزودونا من الكعك والسَّوِيق والماء _ والسويق: قمح أو شعير يُقلى ثم يُطحن _ فلم نزل نمشي حتى نَفِد ما كان معنا من الماء والسويق والكعك! فجعلنا نمشي جياعًا عطاشًا على شط البحر، حتى وقعنا إلى سُلحفاة قد رمى بها البحر مثلَ التُّرس، فعَمَدنا إلى حجرٍ كبيرٍ فضربنا على ظهرها فانفلق ظهرها، وإذا فيها مثلُ صُفْرة البيْض، فأخذنا من بعض الأصداف المُلقاةِ على شط البحر، فجعلنا نغترف من ذلك الأصفر فنتحَسَّاه، حتى سكن عنا الجوعُ والعطش ...
حتى دخلنا مدينة الراية، وأوصلنا الكتاب إلى عاملها _ أي: أميرِها _، فأنزلَنا في داره، وأحسنَ إلينا، وكان يقدِّم إلينا كل يوم القَرْع، ويقول لخادِمه: هاتِي لهم اليَقْطِينَ المبارَك، فقدم إلينا من ذاك اليقطين مع الخبز أيامًا! فقال واحد منا بالفارسية: ألا تدعو _ لنا _ باللحم المشؤوم؟! وجعل يُسمع الرجلَ صاحب الدار، فقال: أنا أحسن الفارسية؛ فإن جدتي كانت هَرَوِيَّةً _ نسبةً إلى مدينة هَراة في خراسان _، فأتانا بعد ذلك باللحم، ثم خرجنا من هناك وزوَّدَنا إلى أن بلغْنا مِصر " _ يقصِد مركز البلاد المصرية، ومجتمع العلماء، والله أعلم _.
أحبابي الكرام! كان ذلك بعضَ ما لقيه أحد أئمتنا في طلب العلم، وفي تاريخنا من أمثاله الكثيرُ الكثير، ممن رفع الله بِكَدِّهم وإخلاصهم ذكرهم، وأعلى درجتهم.
أما نحن فما عذرنا وقد تقاعسنا عن طلب العلم بعدما امتن الله علينا بتيسير سبله، وتقريب مناله؟! فما كان أسلافنا يضربون لأجله أكباد الإبل بات لا يحتاج منا إلا ضغطةً واحدةً على زِرِّ الحاسوب لنجدَ فيه بغيتنا، فإن شئنا قرأناها، وإن شئنا على جناح السرعة نسخناها، أو هتفنا بها إلى أخ كريم، أو أرسلناها بالبريد الإلكتروني، أو بالفاكس، أو بالهاتف الجوال.
كما يجب علينا أن لا ننسى أبدًا أن نبينا محمدًا _ صلى الله عليه وسلم _ قد أوصانا بنقل العلم وتبليغه لتعُمَّ في المعمورة فائدته، وينعمَ به أهلُها كافةً، فقال _ صلى الله عليه وسلم _: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ... " (3). أخرجه البخاري. وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: " نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ " (4). أخرجه الترمذي وقال: ... حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(توفي أبو حاتم الرازي في شعبان، وهو في عُشر التسعين، سنة سبع وسبعين ومائتين) (5) للهجرة.
وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
(1) ابن العماد _ شذرات الذهب _ دار ابن كثير _ (ج 2 / ص 171).
(2) مدينة على بحر " القُلْزُم _ البحر الأحمر _ بينها وبين المدينة المنورة يوم وليلة، وهي مرفأ لها.
(3) البخاري: 3461 في " أحاديث الأنبياء ".
(4) الترمذي: 2656 في " العلم ".
(5) ابن العماد _ شذرات الذهب _ دار ابن كثير _ (ج 2 / ص 171).
¥