أعرف بعض الناس أنهى كُتُبًا ومجلّدات كاملة في المواصلات! ما الذي يمنعك أن تحمل في جيبك ورقةً فيها جُزء منَ المتن الذي تحفظه؟ ما الذي يمنعك أنْ تستغلَّ وقت رواحك إلى المسجد ومجيئك منه في المراجعة والحفْظ؟! لا يمنعك شيء مِن هذا إلا التخاذُل والتوانِي.
والله إنِّي لأعرف بعض الناس يستغلون وقت دُخُول الخلاء لمراجعة ما يحفظون من المنظومات في أذهانهم بغير تلفُّظ! وهذا يُذَكِّرنا بإمام الحديث أبي حاتم الرازي، الذي كان يقرأ عليه ولدُه في كل وقت حتى في وقت دخوله الخلاء!
المشكلة ليستْ في المال، فكثير مِنْ أهْلِ العلْم وطلبته كانوا فُقراء لا يجدون قوت يَوْمهم، والمشكلة ليستْ في الوقت، فكثير من أهل العلم وطلبته كانوا مشغولين أكثر من شغلنا، والمشكلة ليستْ في الزواج، وليستْ في العمل، وليستْ في كلِّ هذه الأعذار.
المشكلة فينا، في تخاذُلنا، وفي توانينا، وفي تهاوُننا، وفي الأمراض الكثيرة التي لدَيْنا، والله نحن في نِعَمٍ كثيرةٍ سابغةٍ لا نكاد نشعر بها، فأين نحن الآن مِن أسلافنا من العلماء؟ لو رأى أحدهم ما نحن فيه من النعيم؛ من الإنترنت، والكتب المصورة، والأشرطة، والتواصل بين طلبة الشرق والغرب، وغير ذلك، لتَعَجَّبَ من هذا التواني الذي نعانيه.
كنت أتمنى أن أعرف ماذا كان سيفعل السيوطي، أو ابن الجوزي، أو الطبري، أو ابن تيميَّة، أو غيرهم من فحول العلماء، لو أدركوا عصرنا هذا؟
أكاد أقسم أن السيوطي كان سيضع أضعاف ما وضعه من مصنفات ومؤلَّفات.
ماذا كان سيفعل ابن عساكر لو أدْرك عصرنا هذا؟
أتوقع أنه كان سيُصاب بالعجب عندما يعلم أن كتابه الذي لا يستطيعه أحدٌ من أهل عصرنا قد استغرق المحققون في تحقيقه فقط أكثر من عمره!
ويا ترى ماذا يكون شعور ابن تيميَّة عندما يعرف أن مجرد تحقيق كتابه "بيان تلبيس الجهمية" قد استغرق أربعين سنة؟! مع أنه تحقيق ضعيف لا يرقى للمستوى المطلوب.
وماذا يكون شعوره إذا عرف أن مجرد تحقيق كتابه "درء التعارض" قد استغرق خمسًا وعشرين سنة؟!
وماذا يكون شعور الجُوَيْني إذا عرف أن مجرد تحقيق كتابه "نهاية المطلب" قد استغرق خمسًا وثلاثين سنة؟!
وماذا يكون شعور ابن منظور إذا عرف أن مجرد تحقيق كتابه "لسان العرب" قد استغرق عشرين سنة؟!
تخاذُل وضعف، وهوانٌ وتوانٍ لا مثيل له.
وبعد هذا كله يأتي الواحدُ منا، فيُجهّل العلماء، ويتهجم عليهم، ويسفِّه أحلامهم، ويرفض أقوالهم، ويتعالى عليهم، ويرد عليهم بألفاظ لا تليق بتلاميذ تلاميذهم.
أين نحن من هؤلاء؟ أين علْمُنا مِنْ عِلْمهم؟ أين فَهْمنا مِنْ فَهْمهم؟
أين همتنا مِنْ همتهم؟ أين ذكاؤنا من ذكائهم؟
أين نحن ممن قال قائلهم: "ما نحن فيمن مضى إلا كبقْل في أصول نخلٍ طوال"؟
أما نحن فلم نبلغ هذا البقل، وحتى إن بلغناه فليس لدينا منَ الأدب ما يحملنا على أن نقول مثل هذا القول.
اللهم أصلح أحوالنا، واهْدنا إلى سواء الصِّراط.
المصدر: الألوكة. ( http://www.alukah.net/Social/0/24210/)
ـ[فارس النهار]ــــــــ[11 - 10 - 10, 11:09 م]ـ
جزاك الله خيرا ..
للفائدة:
مقالات أخرى مفيدة لكاتب الموضوع -وفقه الله- من موقع الألوكة ( http://www.alukah.net/Authors/View/Social/2218/)